صوت خارج الشاشة يعلق على صور دمار يلتقطها بكاميرا فيديو هواة.
الصوت: مرحبا بكم في بلد الخراب:
الشيشان (صور حرائق تملأ المكان) هنا لا شيء مهما يحدث لأننا وصلنا بعد انتهاء المعركة.. لكنكم ترون حالة الخراب التي تسيطر هنا.. كما قلت لكم: مرحبا في بلد الخراب حيث لا تودون لا التواجد ولا مشاهدة ما يحصل فيه.. على كل، لن تطلعوا أبدا عما يحدث هنا لأن رئيسنا المبجل سيفعل كل ما بوسعه ليجنبكم تبعات هذا ويسمح لنا بمحاربة هؤلاء. عاشت
روسيا الكبرى وجيشها الأبي.
كان ذاك صوت الجندي الروسي كوليا الذي يواصل التصوير حيث يظهر زملاء له يتفننون في إهانة عائلة شيشانية مكونة من أب وأم وبنت شابة. هم في نظر الجنود مجرد إرهابيين. وكل ما وجده رب الأسرة في مواجهة إهاناتهم كان الدعاء وقراءة الفاتحة أمام استغرابهم وحنقهم حد تصويب أحدهم بندقيته وإطلاق النار عليه وبعده على زوجته التي ما أن صرخت فيهم أنهم قتلة حتى نالت نصيبها من الرصاصات.
يلتفت الجندي صاحب الرصاصات القاتلة نحو كاميرا كوليا متفاخرا.
الجندي: لقد تابعتم فصلا من فصول "عملية مكافحة
الإرهاب" وقد كُلِّل بالنجاح التام.
والمشهد من فيلم (البحث – 2014) للمخرج الفرنسي ميشيل هازانافيسيوس.
عودة سريعة للتاريخ..
في العام 1996، وبعد 18 شهرا من الحرب وعشرات الآلاف من القتلى، انسحب الجيش الروسي من الشيشان. لم تستمر حالة السلم أكثر من ثلاث سنوات. ففي العام 1999، وفي يوم التاسع من أغسطس، وفي روسيا محتضرة عيّن الرئيس بوريس يلتسين شخصا غير معروف وقتها في منصب رئيس الوزراء: كان ذاك فلاديمير بوتين.
ثلاثة أسابيع بعدها، اهتزت موسكو على وقع تفجيرات لم تتبناها أية جهة. لكن النظام الروسي سارع إلى اتهام المقاتلين الشيشانيين بالوقوف وراءها. بعدها بأيام تحركت القوات العسكرية الروسية في اتجاه الشيشان. رسميا، كان تحرك الجيش تحت مسمى "عملية مكافحة الإرهاب". لكنها كانت بداية شرارة الحرب الثانية بالشيشان.
يعود تاريخ الفيديو الذي عثر عليه المجند الروسي كوليا في بداية فيلم (البحث) إلى يوم 16 اكتوبر 1999. بعدها بسبع عشرة سنة تحولت ساحة الحرب الروسية من غروزني وبقية مدن الشيشان إلى حاضرة حلب ومختلف محافظات سوريا. فهل سيتكرر الموقف نفسه في 16 اكتوبر 2016 أو غيره من هذه الأيام المظلمة على بعد آلاف الأميال من بلد كانت رمزا لمواجهة الآلة العسكرية الروسية المدمرة؟
اليوم لم يعد فلاديمير بوتين شخصا مجهولا بل صار أشهر من نار على علم. تشهد له مجازره بالشيشان ومنهجيته التي كانت قتل المختطِفين والمختطَفين في مسارح موسكو وغيرها، وأيضا سياسته التصادمية في مواجهة الغرب اعتمادا على نهج فرض الأمر الواقع كما كرسه في شبه جزيرة القرم بعد ضمها دون احترام ل"الشرعية" الدولية ودون اكتراث ببلاغات وخطب الغرب المستنكرة.
وفي سوريا، يحاول بوتين، مدعوما بقواعد عسكرية نفذ إليها في "غفلة" من الغرب، تركيع أهل البلد الثائرين ومن والاهم في "حربهم" المعلنة ضد حليفه الاستراتيجي في المنطقة، ومن خلال ذلك استعادة جزء من الكبرياء الروسي الذي انجرح وخُدِش على أيدي سلفيه غورباتشوف ويلتسين. ولم يكن للرجل أن يحقق ذلك لولا "ضبابية" الموقف الأمريكي وانحسار الدور الأوربي كما كان الأمر بالضبط في حرب الشيشان الثانية بداعي الحاجة إلى روسيا "قوية" في محاربة التطرف والإرهاب الإسلاميين... إنه التاريخ يعيد نفسه والمأساة تتكرر من جديد.
فيلم البحث..
داخل إحدى غرف الاجتماعات بمقر المجموعة الأوربية ببروكسل، تقف كارول، وهي التي أرسلتها اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى الشيشان لإنجاز تقرير حول وضعية حقوق اللاجئين والمهجرين هناك، أمام جمع من أعضاء لجنة الخارجية بالمنظمة لعرض تقريرها وسط لا مبالاة قليل من الحاضرين.
كارول: سأحدثكم اليوم عن صراع يقع في هذه الأثناء على الجانب الآخر من القارة الأوربية.. في الشيشان. هذه الحرب التي تم التحضير لها على فترات قبل أن تبدأ فصولها في الخامس من سبتمبر الأخير بضربات جوية روسية موجهة ضد الأراضي الشيشانية، تلتها عملية غزو في الفاتح من أكتوبر 1999. هذه حرب مسلحة وليست عملية للقضاء على الإرهاب كما تدعي السلطات الروسية. منذ منتصف أكتوبر بدأت القوات الروسية في التوغل جنوبا مدعومة بضربات مكثفة من الجو دون تفريق بين المقاتلين والسكان المدنيين.. مثلا في 21 اكتوبر، انفجر صاروخ بغروزني مخلفا أكثر من 150 قتيلا في مسجد وسوق وروض أطفال. تتعرض غروزني اليوم لقصف ممنهج على مدار ساعات اليوم رغم وجود أربعين ألف مدني داخلها ولا تبدو هناك أية نية ل"عقلنة" الضربات. أهداف الضربات الوحيدة هي التدمير والقتل. لم يمنح المدنيون أية ممرات آمنة للخروج.. وكلما سيطر الروس على منطقة معينة يقوم الجنود بعمليات نهب وسرقة للممتلكات، وعمليات اغتصاب وقتل ممنهجة. تجاوزات القوات الروسية لن تولد غير نزعات انتقامية لدى الأجيال القادمة إن لم تتدخل أوربا .. هكذا فقط سيعرف الشيشانيون أن العالم لم يتخل عنهم.. أخيرا، من الواضح أن السلطات الروسية تتحكم في المعلومة المتعلقة بمسار الحرب وهو ما يفسر أن الرئيس يلتسين ورئيس وزارئه بوتين لا يواجهون أية معارضة داخلية.
لم يهتم الحاضرون بكلام كارول فهم يعرفون ذلك وأكثر بكثير. لكن أيديهم مغلولة بمصالح اقتصادية وسياسية أكبر من الاهتمام بمصير شيشانيين يتقاسم كثير منهم تصنيف الروس لهم بكونهم مجرد "إرهابيين".
ماذا لو عوضنا الشيشان بسوريا وغروزني بحلب في خطاب كارول؟ ألا يصلح هذا الخطاب لتوصيف جزء يسير مما يجري على الأرض السورية اليوم؟
روسيا وتابعتها سوريا تدعيان أنها "عملية مكافحة للإرهاب"، والواقع يدلل أنها حرب وحشية تستهدف الإنسان والشجر والحجر، والأهم كسر شوكة ثوار وشعب أعلن "العصيان" ومن خلاله إعادة ترتيب الخريطة الإقليمية والدولية. هو قصف جوي روسي لا يفرق بين مدنيين وثوار حاملين للسلاح، ولا بين "تجمعات مسلحة" أو بنايات سكنية أو مستشفيات. وهي حشود هولاكو على الأرض تنتظر بمشارف المدينة لحظة الصفر للانطلاق في "الغزوة الكبرى" برعاية الأخ والرفيق الروسي. فلاديمير بوتين يعرف ما يريده بالضبط أما الباقون فغارقون في أوهام "ضبط النفس". يصفون الوضع ب"البربرية" وب"جرائم الحرب" ويمثلون حلب بسراييفو وغورنيكا وغروزني دون رغبة أو قدرة على التحرك ووقف الجنون الروسي. أما العرب والمسلمون فصاروا مطبعين مع الذل والهوان لا تحرك استغاثة امرأة أو بكاء طفل أو دمار حضارة مشاعرهم، ولا تستثير المساجد والمستشفيات المدمرة نخوتهم وعزتهم. وكل ما استطاع اتحاد علماء المسلمين فعله دعوة ل"جمعة غضب" لنصرة حلب لم يخرج فيها أحد من المسلمين.
كل المؤشرات تؤكد أن الأسوأ قادم لا محالة. فما ارتكبته المليشيات الطائفية بالعراق، ولا تزال، إنذار بمجازر إنسانية سترتكب حال بدء هجومها البري الشامل بالنظر إلى ما تكبدته إيران و"حزب الله" وبقية المليشيات من خسائر طوال سنوات الحرب، وللرغبة في الانتقام ساعة لابد لها أن تدق.
في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وجه صحفي سؤالا إلى مندوب سوريا الدائم هناك بشار الجعفري: هل قصفتم مستشفيات حلب؟
لم يرد الجعفري بل واصل طريقه واثقا أنه بمنأى عن العقاب وهو يقهقه شامتا وغير آبه بالسؤال وبمن طرحه.