على مكاتب مديري الاستخبارات في الغرب ملف حساس وبالغ الخطورة. ملف «العائدين من سوريا». لم يعد باستطاعة الأجهزة الأمنية أن تغمض عيونها أو تتساهل. ما جرى في باريس وبروكسل كان مفزعا ويحتم عليها أن تتعامل مع كل عائد كأنه حزام ناسف. الكلام عن تسلل إرهابيين بين أمواج اللاجئين ضاعف من قلق الأجهزة. مراقبة العائدين ورصد تحركاتهم عمل مكلف وصعب. إننا نتحدث هنا عن أجهزة تخضع للقوانين، أجهزة لا تجرؤ على اقتلاع أظافر أو أسنان أو تجويع سجين حتى الموت.
لنترك ملف «العائدين من سوريا» جانبا. هناك ملف أشد خطورة؛ إنه ملف «العالقين في سوريا»، ملف الذين اجتذبتهم النار السورية فألقوا بأنفسهم فيها حالمين بالانتصار أو الحد من الخسائر. بعد كل الأهوال التي شهدنا، يمكن القول إن الذهاب إلى سوريا أهون بكثير من العودة منها. وإن الانزلاق إلى البركان السوري أسهل بكثير من الاستقالة منه ومغادرة مسرحه.
أسئلة بسيطة تساعد في كشف مشكلة مَن توغلوا في حقول الوحل والدم ولو بدوا أقوياء حتى الآن. متى يستطيع فلاديمير بوتين أن يأمر قواته بالمغادرة من دون أن يُقال إن حصاد مغامرته هناك كان أقل بكثير مما زين له وزير خارجيته وجنرالاته؟ متى يستطيع المرشد علي خامنئي أن يبلغ الجنرال قاسم سليماني أن ساعة الرحيل عن سوريا قد حانت؟ متى يستطيع السيد حسن نصر الله أن يأمر قوات «حزب الله» بالعودة إلى مواقعها في لبنان؟ لا شك في أن الأطراف الأخرى التي سلحت المعارضة السورية ومولتها ستجد صعوبة أيضا في الاستقالة من التزاماتها السورية، لكن مشكلاتها أقل بكثير، لأنها لم تنخرط هناك بجيوشها.
كتب الكثير عن «براعة القيصر» والتحول الذي أحدثه في النزاع التدخل العسكري المباشر لقواته. ولكن ماذا لو كنا في الطريق إلى ولادة «سوريستان»؟ من أتيح له تصفح «الدستور الروسي» لسوريا يخالجه انطباع بأن الحل في سوريا أصعب مما يُعتقد. علاقات روسيا بالعالم السني لا تستطيع احتمال دعم روسي مفتوح لتمكين السلطة السورية من سحق كل المعارضات، واستعادة السيطرة على كامل الخريطة. مرابطة القوات الروسية لسنوات حامية لجزء من سوريا محفوفة هي الأخرى بالأخطار. ثم إن أي حل روسي قابل للتسويق لا يتطابق بالضرورة مع حسابات إيران. أي جهد روسي جدي لاختصار أمد الحرب يحتاج إلى قبول إيراني وتعاون أمريكي وقبول خليجي وتركي. ولن يكون غريبا أن تتعامل أي إدارة أمريكية جديدة مع روسيا، بوصفها عالقة في الفخ السوري.
لا شك في أن إيران فعلت الكثير، مباشرة أو عبر أذرعها، للدفاع عن الحلقة السورية في الهلال الذي استثمرت البلايين والسنوات لبلورته وتحصينه. لكن الحلم الإيراني يصطدم في سوريا بالحقائق الديموغرافية والتوازنات الإقليمية والدولية. ليس هناك حل في سوريا يعيدها إلى ما كانت عليه بالنسبة إلى إيران. أي حليف كامل بلا تحفظ وممر للصواريخ الإيرانية إلى لبنان وعمق لـ «حزب الله» اللبناني. حل من هذا النوع يستلزم انتصارا عسكريا كاسحا، وتدمير مناطق واسعة من سوريا، وهو بطبيعته مُنجب للإرهاب وليس خاتمة له. لهذا تبدو إيران عالقة في سوريا، لا تستطيع الوصول إلى انتصار يبرر انسحابها، ولا تستطيع الانسحاب والقبول بتحول سوريا حلقة مهتزة وغير مضمونة في الهلال.
من يعرف عمق العلاقة التي ربطت «حزب الله» بدمشق، خصوصا بعد الغزو الأمريكي للعراق، لا يستغرب انخراط الحزب هناك. كانت سوريا شريان الحياة والعمق الآمن والحلقة التي لا بد من ضمانها لاضطلاع الحزب بدور لاعب إقليمي، لكن الحزب الذي حدد موعد ذهابه إلى النار السورية لا يستطيع تحديد موعد خروجه منها. يستطيع الحزب التحدث عن دوره في التصدي للتكفيريين، لكن هذه المهمة تُدخل تغييرا على دوره ووضعه وأولوياته، وهي بطبيعتها مهمة مفتوحة. ما يصدق على إيران يصدق على الحزب. ليس هناك من حل في سوريا يعيدها وسادة مضمونة لبرنامج الحزب. أما الرهان على انتصار كاسح فقد يستدعي تورطا طويلا مكلفا، ينذر أيضا بانهيار الحلقة اللبنانية من الهلال.
لا أقصد أن العالقين في سوريا هُزموا هناك. تدخلهم منع انهيار النظام السوري وعزز موقعه في أي مفاوضات جدية مقبلة. لكن هذه النجاحات لا تعني أبدا القدرة على إنهاء الحرب أو القدرة على التكهن بموعد الخروج من سوريا. كل المؤشرات تشي بأننا أمام حرب مديدة قد تُهدد بقيام «سوريستان» وبولادة «قضية سنية» أصعب بكثير من القضية الفلسطينية، التي كان أهل المنطقة يسمونها «القضية المركزية».
أكتب متشائما وأتمنى أن أكون مخطئا. ثمة من لا يزال يأمل في محاولة جدية أمريكية- روسية للحل، تقوم على توزيع السمّ وإن بنسب غير عادلة. بوتين لا يريد الإقامة طويلا على الجمر السوري، وباراك أوباما يريد إنجازا قبل انتهاء ولايته لتلميع صورته ومذكراته.