لكثرة ما استهلكنا مصطلح المؤامرة وابتذلناه في الهرج الإعلامي والمعارك الوهمية، فإننا لم نحرك ساكنا حين صرنا إزاء مؤامرة حقيقية. وكنت قد أشرت إلى نموذج من ذلك القبيل لاحت بوادره في الأفق، فيما نشر لي يوم 30 مايو تحت عنوان «مؤامرة في الطريق». وهو ما خلصت إليه حين وقعت على تصريحات للسيد
توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق، الذي يقوم بدور مشبوه في العالم العربي تحدث فيها عن رؤيته لحل الصراع العربي الإسرائيلي. وكانت خلاصة ما قاله أنه إذا وافقت حكومة نتنياهو على التفاوض مع الفلسطينيين على أساس مبادرة السلام العربية (التي أطلقت في عام 2002)، فستكون الدول العربية مستعدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون انتظار لنتائج المفاوضات. وألمح إلى أنه في ظل الظروف التي يمر بها الشرق الأوسط، فثمة إمكانية لأن توافق الدول العربية على «تخفيف» خطوط المبادرة (بمعنى التراجع عن أهم شروطها)، بما يفتح الأبواب لتطبيع العلاقات وتعزيز الثقة ومن ثم إنجاح المفاوضات.
في التعليق على تلك التصريحات التي نشرتها صحيفة «هاآرتس» يوم 25/5 قلت إنها تضعنا أمام أحد احتمالين، أحدهما أن يكون الكلام مجرد تصور واقتراح من جانبه، وهو ما اعتبرته وقاحة سياسية تطالب العرب بالتنازل عن حقوقهم، وتؤدي إلى تمكين إسرائيل وفوزها بالتطبيع، فضلا عن إضفاء الشرعية على مشروعها الاستيطاني. الاحتمال الثاني أن يكون الرجل المشبوه قد نسق «الطبخة» مع الأطراف المشبوهة التي يتعامل معها، الأمر الذي يعتبر جريمة ومؤامرة تاريخية ينبغي التصدي لها.
شاءت المقادير أن تنشر صحيفة معاريف في اليوم التالي مباشرة (31/5) مقالة كتبها بن كاسبيت، أحد كتابها البارزين، ألقى فيها مزيدا من الأضواء على الموضوع بحيث جاء كلامه مرجحا للاحتمال الثاني. إذ ذكر أن الموضوع كان محل تفاهم بين نتنياهو وبعض الزعماء العرب، على أن يبدأ تحريك الملف في الاتجاه الذي تحدث عنه توني بلير بعد انضمام زعيم المعارضة إسحاق هرتسوج (المحامي وابن الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هرتسوج) وحزبه إلى الحكومة. وهو المشهود له بالرصانة والهدوء (من وجهة النظر الإسرائيلية)، بما يسوغ الادعاء بأن التشكيلة الوزارية وزارة «سلام». وتحت هذه اللافتة تطبخ المرحلة الثانية في السيناريو، التي تعلن فيها الوزارة خطتها للتفاوض وموافقتها على مبادرة السلام العربية.
طرأ تغيير جوهري على السيناريو، لأن الذي انضم إلى الحكومة أفيجدور ليبرمان، الذي تلاحقه سمعة لا يمكن أن توصف في ظلها التشكيلة المرتقبة بأنها حكومة سلام. فالرجل سبق له أن دعا إلى هدم السد العالي وإلى إعدام إسماعيل هنية قيادي حماس في غزة خلال 48 ساعة. كما أنه طالب بمحو القطاع بأسره وتحويله إلى ملعب لكرة القدم!
ذكر بن كاسبيت في مقالته أن نتنياهو اتصل هاتفيا مع أحد القادة العرب المتفاهمين معه حول الموضوع، وأبلغه بالتغيير الذي اقتضته حساباته الداخلية. وهو ما أقلق القيادي العربي الذي «تميز غضبا» حسب تعبير الكاتب الإسرائيلي. حينئذ نقل بن كاسبيت عن نتنياهو قوله: أنا أقف وراء كل ما وعدت به، ولن أتراجع عن شيء. ولا زلت عند التزامي بالتحرك إلى الأمام.. ثم تحدث عن ليبرمان قائلا إنه ليس بالسوء الذي يتصوره الجميع، وهو ملتزم بمراحله المسيرة والسعي لتحقيق الاستقرار.
لم يفصل بن كاسبيت فيما جرى بعد ذلك، لكنه ذكر أن نتنياهو واصل تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، فأعلن لأول مرة اعترافا غامضا بمبادرة السلام (بعد تعديلها أو تحديثها على حد تعبيره)، كأساس للمفاوضات مع الفلسطينيين، وسارع ليبرمان للحاق به.
أضاف الكاتب قائلا: في إطار الخطة المقترحة، تعهد نتنياهو بأن تنفذ إسرائيل على الأرض خطوات تجسد التزامها بحل الدولتين، وتعلن اعترافها بمبادرة السلام المعدلة كأساس للمفاوضات. وقد نفذ الالتزام الثاني أما الأول فغامض جدا، ثم تساءل: بماذا التزم العرب؟
ــ في رده، ذكر أنهم تعهدوا بالبدء في خطوات التطبيع بالتوازي مع تقدم المسيرة. مشيرا إلى أن بعض الدول قبلت بالتطبيع بعد إتمام التسوية، إلا أن دولا أخرى أبدت استعدادها للبدء في التطبيع بالتوازي مع الخطوات التي يتم إنجازها في المفاوضات.
هذا الكلام يعني أننا بصدد مؤامرة حقيقية وليست وهمية، وأن المؤامرة لم تعد في الطريق كما ذكرت في مقالة 30 مايو، وإنما صارت على عتبات البيت الذي صار بعض أهله ضالعين فيها.. وإذ يصدمنا ذلك ويضعنا إزاء موقف لا يخطر لنا على بال، فإنه يستدعي عدة أسئلة كبيرة منها ما يلي:
كيف يصدق عاقل أو صاحب ضمير أن حكومة يمينية فاشية، يقودها اثنان من عتاة مجرمي الحرب هما نتنياهو وليبرمان، يمكن أن تقدم على خطوة من شأنها أن تقدم أي شيء إيجابي يمكن أن يحقق السلام ويسهم في حل
القضية الفلسطينية؟ وأليس مريبا أن يطرح الموضوع في الوقت الذي يمر فيه العالم العربي بأكثر مراحله ضعفا وتشتتا؟
تساعدنا على الإجابة والتفسير معلومة لها دلالتها الخطرة أوردها زميلنا الأستاذ محمد المنشاوي خبير الشؤون الأمريكية، ومراسل جريدة «الشروق» في واشنطن في ثنايا مقالته التي نشرت في 27 مايو الماضي؛ إذ ذكر أن حاكما عربيا التقى في جلسة مغلقة بنيويورك مع بعض قادة المنظمات اليهودية وعدد من المفكرين وخبراء الشرق الأوسط، وفي أثناء اللقاء دعا إلى ضرورة استغلال واشنطن لحالة الضعف العربي غير المسبوق والانقسام والتشتت الفلسطيني لإنهاء القضية الفلسطينية. وذكر أن الدول العربية المعتدلة ستضغط في هذه الحالة على الفلسطينيين، ليقبلوا بشبه دولة تعرضها عليهم إسرائيل، مضيفا أن الإسراع بهذه الخطوة مهم في الوقت الراهن، لأن أحدا لا يعرف ماذا سيأتي به المستقبل. وهي معلومة إذا صحت، فإنها تعني أن المؤامرة باتت في داخل البيت وليست على عتباته فحسب.
لقد وصفت الكلام حين صدر عن توني بلير بأنه «وقاحة»، لكنني أعجز عن أن أجد وصفا مناسبا أو مهذبا لهذا الموقف الأخير، لذلك سأترك المهمة لك.
(عن صحيفة الشرق القطرية)