كأنه قطعة من قلبه لا يفارقه، يحتفظ به في صندوق مقتنياته الثمينة التي لا تقدر بثمن، يخرجه من حين لآخر ليذكر أبناءه وأحفاده بأن لهم أرضا مغتصبة، وربما فاض به الحنين فيخرجه ليتذكر تلك الأيام حين كان يمضي نهار يومه وسط بيارات البرتقال والخوخ والدراق.
جيل كامل، لقب، رغما عنه، بجيل النكبة. جيل لم يبق منه سوى القليل، بعد أن مرت عليهم أكثر من 68 عاما هي عمر النكبة حتى اللحظة. جيل لا يزال يحمل مفتاح بيته الذي تركه في
فلسطين بانتظار العودة.
جيل يحمل في ذاكرته تفاصيل القرية والمدينة والحياة الاجتماعية والسياسية في فلسطين، ولا يزال، للمفارقة، ينتظر لحظة العودة لإكمال ما تركوه وراءهم في حقول الزعتر والنعناع حين غادروا فلسطين مرغمين، أو بفعل الدعاية التي أحدثت ضررا أكثر مما أحدثه البارود والرصاص وهدير الطائرات.
لكل روايته وحكايته وقصته حول النكبة، وما جرى قبل وبعد النكبة.
روايات عدة تدور حول ما حدث قبل وبعد الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948، اليهود ومعهم بريطانيا، يتحدثون عن حرب "تحرير واستقلال" على أرضنا، ونحن نتحدث عن نكبتنا، نكبتنا في ضياع فلسطين والتهجير القسري الجماعي لأكثر من 750 ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم في فلسطين، بينما قتل أكثر من 13 ألف آخرين على أيدي القوات الإسرائيلية.
يعتقد غالبية الناس أن النكبة بدأت عام 1948، إلا أنها في الحقيقة بدأت قبل ذلك بعقود، ففي عام 1799، نشر نابليون بونابرت بيانا يدعو فيه إلى إنشاء "وطن لليهود" على أرض فلسطين تحت حماية فرنسية، بهدف تعزيز الوجود الفرنسي في المنطقة.
لم تنجح خطة نابليون في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، لكن البريطانيين عادوا لإحياء الخطة في أواخر القرن التاسع عشر، فبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدأت قوى الاستعمار البريطانية المنتدبة على فلسطين تنفيذ مخططها لبناء "دولة يهودية" على أرض فلسطين.
وفي عام 1917، أعلن "
وعد بلفور" الدعم البريطاني لإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين.
وجاء "وعد بلفور" في رسالة كتبها وزير خارجية بريطانيا السابق آرثر بلفور إلى أحد زعماء الجالية اليهودية في بريطانيا البارون روتشيلد.
رأى اليهود هذا "الوعد" على أنه نصر حقيقي، فقد نصت الرسالة على أن البريطانيين "سيبذلون قصارى جهدهم لتسهيل إنجاز هذا الهدف".
وجاء وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني كخطوة أولى في تحقيق "وعد بلفور" وتطبيقه على أرض الواقع.
ولم يقف أصحاب الأرض الفلسطينيين مكتوفي الأيدي، وإنما قاوموا بكل ما لديهم من قوة وسلاح الخطط الهادفة إلى تهويد بلادهم، فقامت عدة ثورات لعل من أهمها كانت ثورة فلسطين الكبرى التي استمرت نحو 3 سنوات التي قامت عام 1936، وكانت ثورة عربية ضد الاستعمار البريطاني والاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
المقاومة الفلسطينية كانت ضد عدوين واضحين ومتحالفين: قوات الاستعمار البريطاني والعصابات المسلحة الصهيونية التي تزايدت أعدادها لتصل إلى 40 ألف شخص في ذلك الوقت.
وفي الوقت الذي تابع الصهاينة فيه استخدام كل الوسائل الممكنة لتحقيق حلمهم بإقامة "دولتهم" على أرض فلسطين العربية، اتضح لهم أن المقاومة الفلسطينية كانت ضعيفة جدا في أرض المعركة، نتيجة ضعف التسليح وقوة الطرف الآخر.
ومع تصاعد الهجمات الإرهابية الصهيونية ضد العرب والبريطانيين، قرر البريطانيون تسليم مسؤولية ملف فلسطين للأمم المتحدة التي تشكلت حديثا في ذلك الوقت، وضمت دولا بالكاد تعرف أين تقع فلسطين.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، اقترحت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية.
شكل اليهود في فلسطين وقتها أقل ثلث السكان رغم موجات الهجرة التي تصاعدت بعد دخول الجنرال البريطاني "النبي" القدس، غالبيتهم قدموا من أوروبا، وكانوا يسيطرون على مساحة تصل إلى أقل من 6% فقط من دولة فلسطين التاريخية.
إلا أن الخطة المقترحة من قبل الأمم المتحدة خصصت لهم 55% من مساحة دولة فلسطين التاريخية، وبالطبع رفض الفلسطينيون وحلفاؤهم العرب الخطة المقترحة.
من جهتها، وافقت الحركة الصهيونية على الخطة المقترحة، خاصة أنها أضفت صفة الشرعية على فكرة بناء "دولة يهودية "على أرض فلسطين العربية، إلا أنها لم توافق على الحدود المقترحة، ولذلك، أطلق الصهاينة حملات مكثفة للاستيلاء على المزيد من أراضي فلسطين التاريخية.
وبعد أن تأكد لحكومة الانتداب البريطاني أن القوى الصهيونية من القوة بحيث تستطيع الدفاع عن نفسها، وبعد أن رسخت الوجود اليهودي على أرض فلسطين، قرر البريطانيون إنهاء فترة انتدابهم لفلسطين يوم 14 أيار/ مايو عام 1948.
ومع اقتراب هذا التاريخ، كثف الصهاينة جهودهم للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية. وفي شهر نيسان/ أبريل عام 1948، سيطر الصهاينة على مدينة حيفا، إحدى أكبر المدن الفلسطينية، وكان هدفهم التالي مدينة يافا.
وارتكب الصهاينة مجازر جماعية منظمة ضد الشعب الفلسطيني، وكانت رسالة الصهاينة واضحة: إما أن يغادر الفلسطينيون أراضيهم، أو سنقتلهم.
وكان للحرب النفسية التي شنها الصهاينة ضد الفلسطينيين دورا مركزيا في تعجيل وتيرة عمليات الهجرة القسرية للفلسطينيين، إذ استطاع اليهود من خلال بثهم تفاصيل المذابح بحق المدنيين، ونشرهم للكثير من الأخبار بين صفوف العامة التي تصور مدى بشاعة المجازر الإسرائيلية المرتكبة؛ بهدف إفراغ الأرض من سكانها العرب.
وفي اليوم نفسه الذي انسحبت فيه قوات الانتداب البريطاني رسميا من فلسطين، أعلن ديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة الصهيونية، إقامة "دولة إسرائيل".
وفي ليلة وضحاها، أصبح الفلسطينيون بلا دولة، وأصبح اليهود الطارئين على أرض فلسطين أصحاب الأرض، وخلال دقائق قليلة، اعترفت أكبر قوتين من قوى العالم؛ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي بـ"إسرائيل".
وبينما واصل الصهاينة حملات التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، نشبت حرب بين بعض الدول العربية المجاورة و"الدولة الحديثة". وعينت الأمم المتحدة الدبلوماسي السويدي فولك برنادوت وسيطا لها في فلسطين.
انتهت جهوده الحثيثة للتوصل إلى حل سلمي لإيقاف حملات التطهير العرقي الصهيونية المستمرة ضد الفلسطينيين، عندما اغتاله الصهاينة في أيلول/ سبتمبر عام 1948.
تابعت الأمم المتحدة جهودها للتوصل إلى اتفاق هدنة بين "إسرائيل" والدول العربية المجاورة. وبعد اغتيال برنادوت، تم تعيين نائبه، الوسيط الأمريكي رالف بنش.
ترأس بنش المفاوضات بين "إسرائيل" والدول العربية، والنتيجة كانت تنازل الدول العربية عن المزيد من الأراضي الفلسطينية لـ"الدولة الجديدة". وفي أيار/ مايو عام 1949، انضمت "إسرائيل" للأمم المتحدة كـ"دولة" عضو، وعززت سيطرتها على أكثر من 78% من أراضي فلسطين التاريخية، وتمت تسمية الـ22% المتبقية منها "الضفة الغربية وقطاع غزة".
فيما تحول مئات آلاف
اللاجئين الفلسطينيين إلى لاجئين في مخيمات للاجئين، بانتظار العودة إلى بيوتهم.
خطط الصهاينة لتطهير أرض فلسطين من سكانها، وبذلوا قصارى جهدهم لمسح التراث والثقافة الفلسطينية من الوجود. كان الهدف الأساسي للأجندة الصهيونية هو: مسح فلسطين من خارطة العالم.
لم تنته النكبة الفلسطينية عام 1948، ولا تزال عمليات التطهير العرقي في فلسطين التاريخية مستمرة حتى يومنا هذا، وبالمقابل، فقد تبددت صورة الفلسطيني الذي يحمل حقيبة" بقجة" ملابسه القديمة وبقايا محتويات منزله ويغادر بيته كلاجئ. وحلت مكانه صورة الفلسطيني الذي يفضل الموت تحت قصف الطيران الإسرائيلي على ترك أرضه.
وكشفت مئات الصور في الأرشيف البريطاني عن حجم المقاومة الفلسطينية والعربية للمشروع الصهيوني، وعن حقيقة الحركة العمرانية والتجارية والحضارية النشطة في جميع المدن الفلسطينية قبل النكبة، مما يفند مقولتين بأن فلسطين كانت خالية من السكان وصحراء، وبأن الفلسطينيين تركوا أرضهم وهربوا.
والصور التي نشرت لمئات الفلسطينيين وهم يحملون مفاتيح بيوتهم في فلسطين لا تكذب، والصورة كما يقال تغني عن ألف كلمة، وتقول الكثير من الكلام حول حلم لا يزال يراود مخيلة نحو 12 مليون فلسطيني في العودة إلى وطنهم، وإقامة دولتهم على ترابهم الوطني.