ما زالت ذكريات
النكبة الفلسطينية حاضرة في ذهن الحاجة السبعينية، هدية حمودة خديش (78 عاما)، والتي تنحدر أصولها من قرية إجزم، الواقعة إلى الجنوب من مدينة حيفا.
إذا نظرت في عينيها؛ تجد صورة قريتها التي تقع في القسم الغربي من جبل الكرمل، بسهولها وجبالها، وحاراتها وبيوتها. وهي تتمتع بذاكرة فتية رغم مرور الزمن.. هذا ما يلحظه من يستمع إليها.
في قريتي كان مرتع الطفولة التي لن تتكرر بروعتها، كانت وما زالت جميلة خضراء. حال لسان "أم أحمد".
تقول إن لكل إنسان حلما، وحلم عمرها
العودة إلى إجزم، بلد الآبار والينابيع والجمال.
خرجت الحاجة "أم أحمد" من قريتها عام النكبة 1948، وبعد رحلة طويلة بين قرى ومدن الضفة؛ استقر بها الحال في مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين، بقضاء نابلس شمال الضفة الغربية، ولا تزال تحلم باليوم الذي تعود فيه إلى قريتها، وتتخلص من معاناة المخيم التي تتجدد كل حين.
تقول: "لم يكن سكان قريتي الوحيدين الذين خرجوا بهذه الطريقة، فجميع القرى المحيطة كان مصير سكانها التهجير قسرا.. لم نكن نعلم إلى أين نمضي.. وتركنا كل شيء وخرجنا".
بين ليلة وضحاها؛ وجدت تلك الطفلة نفسها بعيدة عن ألعابها وبيتها، باحثة عن مكان تستظل تحته.
مضت الحافلات باللاجئين الذين خرجت أم أحمد معهم، حتى مرج بن عامر، ومن ثم إلى جنين، وإلى سلفيت، حيث افترشت عائلتها الأرض، وعاشت تحت الشجر لشهرين، وانتقلت فيما بعد إلى مخيم بلاطة حيث تسكن الآن.
تستذكر "أم أحمد" تلك الأيام: "اقتحمت العصابات الصهيونية منزلنا الكائن في قرية إجزم في منتصف الليل.. لا أستطيع نسيان ذلك اليوم بكل تفاصيله المؤلمة والمقشعرة للأبدان، حيث وضعوا الأسلحة في وجوهنا وأجبرونا على مغادرة المنزل دون اصطحاب الأمتعة، كل ما أخذناه هو مفتاح منزلنا".
وقالت لـ"
عربي21": "أذكر أن والدتي جمعت بعض الحبوب وحفظتها في أرض الغرفة، لتستخدمها وتصنع منها الأطعمة لعائلتها عندما يعودون بعد أيام معدودة، لكنها لم تكن تعلم أن غيبتهم ستدوم طويلا؛ لتصل إلى 68 عاما".
وأضافت بصوت متهجد: "لا أعلم ماذا حصل بالحبوب، ربما تعفنت أو نبتت وأصبحت أشجارا وهي تنتظر عودتنا".
الحاجة "هدية" التي تعرف أيضا بكوفيتها السمراء وثوبها الفلسطيني التراثي، تقول بصوت صارم: "لو أعطوني قصرا من ذهب؛ لن أفرط في كوخ من قريتي التي أعتز بها اعتزاز الابن بوالديه".
وأعادت ذاكرتها إلى ما قبل 45 عاما، حيث اليوم الذي زارت فيه قريتها المهجرة بعد سنوات طويلة من رحيلها عنها هي وعائلتها وأبناء قريتها، وقالت: "بكيت عندما زرت بيت عائلتي.. لم أحتمل أن أرى بيتي، الذي نشأت فيه وعشت فيه طفولتي، يسكنه غرباء.. تحسرت على بلدي وعلى الأرض وعلى الشجر.. الأرض كانت بالنسبة لنا هي كل شيء، وكل غذائنا من تلك الأرض".
وتابعت: "لم أستطع الاقتراب من المنزل.. كان كلب العائلة اليهودية على الباب، فخفت أن يهجم علينا، ولكنني تمكنت من الوصول إلى مسجد القرية، الذي لا يزال قائما حتى الآن، والصلاة فيه".
وللحاجة هدية 12 ابنا وابنة، و54 حفيدا وحفيدة، بينما لا يزال نجلها خالد يقبع في الأسر منذ 14 عاما، وهو محكوم بالسجن المؤبد، وقد اعتقل ابنه قبل عامين، وعاش مع والده بالأسر عدة أشهر، قبل أن يطلق سراحه.
يقول نجلها سمير، إن والدته علمتهم أنه يوما ما سنعود إلى إجزم، وهم على هذا العهد، ودوما تحدثهم عن ذكرياتها التي لا تتوقف، مشيرا إلى أن وسائل الإعلام لا تتوقف عن مقابلتها، وخاصة في ظل إحياء ذكريات النكبة.
وتقول "أم احمد"، إن النكبة لا تتوقف، فمن فترة بسيطة؛ عاد الدمار والخراب إلى أزقة ومنازل المخيم بعد اقتحامها من قبل قوات الاحتلال؛ لتكون إشارة إلى أن النكبة متجددة.
"أم أحمد"
هدية خديش، واحدة من بين 5.5 مليون لاجئ مسجل في وكالة الغوث وتشغيل
اللاجئين الفلسطينيين، الذين ينتظرون قطار العودة، فهناك على مدخل مخيم بلاطة الذي يضم 25 ألف لاجئ؛ كُتبت عبارة تقول: "عيدنا يوم عودتنا".
ويحيي الفلسطينيون في الداخل والشتات، الأحد، الذكرى الثامنة والستين للنكبة، من خلال إقامة العديد من الفعاليات التي تؤكد على حق العودة وتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
وأطلق الفلسطينيون مصطلح "النكبة" على ارتكاب العصابات الصهيونية عام 1948 أكثر من 70 مجزرة بحق المدنيين الفلسطينيين، واستيلائها على نحو 774 مدينة وقرية، وتهجير 957 ألف فلسطيني من أراضيهم إلى مختلف أنحاء العالم، ليقطنوا مخيمات اللاجئين، التي بلغت 58 مخيما.