لم يكن الخروج في الخامس والعشرين من يناير 2011 "العيد الرسمي للشرطة المصرية" إلا دليلا للسخط من تلك الأداة التي يستخدمها النظام للبطش بكل شيء لا بالمعارضين وحدهم؛ فقد استفحلت الانتهاكات وطالت كل شيء وأصبح وضع أفراد تلك الهيئة فوق القانون حرفيا، فخرج الناس يومها للمطالبة بحقوقهم في عيد جلاديهم.
لم تعِ تلك الهيئة ذلك الدرس بالصورة الكافية، ولم تفهم أن المجتمع إذا أراد الثورة لأجل المعيشة فإنه يستهدف أدوات النظام، وعلى الأخص الأداة الأمنية، رغم التباين الواسع -في الظاهر- بين المطلب والمستهدف، فالمطلب اقتصادي والمستهدف الأداة الأمنية لا الأداة الاقتصادية، وتلك الحركة أحد مؤشرات وعي المجتمعات؛ إذ أنها تستهدف عوامل قوة النظام لتسلبها ثم تنصرف للتأسيس الجديد، ولو كانت النخبة السياسية المصرية على نفس المستوى من الوعي لما اختل التوازن كما هو حاصل الآن.
الخلاصة أن الهيئة النظامية المدنية كُبحت جماحُها لعامين ونصف، ثم عادت بصورة أشرس من ذي قبل، وأكثر نهما للتعذيب والقتل والتصفية في المعتقلات أو خارجها، في استحضار لماضيها القريب غير المنسيّ، وبصورة لا تسمح بطَيِّ مرارة الألم الناتج عن الممارسات المصاحبة لدولة يوليو الجديدة، وتجاوزها لخطوط حمراء تعلقت باعتقال فتيات ونساء واغتصاب حالات تم توثيق شهادتها، ناهيك عن القتل والتعذيب الوحشي الذي جلّاه حادث مقتل الشاب الإيطالي منذ شهرين تقريبا وتم تسليط الضوء على سلخانات الأجهزة الأمنية التي تشير إليها خيوط مقتله.
بالعودة إلى الاختصاص العام للشرطة نجد أن النص على النحو التالي:
"تختص هيئة الشرطة بالمحافظة على النظام والأمن العام والآداب، وبحماية الأرواح والأعراض والأموال وعلى الأخص منع الجرائم وضبطها، كما تختص بكفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين في كافة المجالات، وبتنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات".
ما نجده أن الواقع يجافي النص، إلا إذا حملنا كلمة "النظام" على المعنى السياسي الشائع، والواقع أن الهيئة لا تحفظ النظام ولا الأمن العام بل تثير الذعر والفوضى بسلوكياتها غير المنضبطة، وكذلك لا تحمي الأرواح والأموال والأعراض، ولعل ما قامت به في رابعة وما بعدها بالاشتراك مع المؤسسة الأخرى صاحبة القرار يدلل على حجم الانفلات الذي أصاب المؤسسات، وهو انفلات يتم تبريره أحيانا بتعرض الأفراد للاستفزاز، وكأن من يحمل السلاح يترك نفسه لمشاعره غير السوية، وكذلك في المواجهات الأمنية تتسع دائرة الدم لتشمل حامل السلاح وغيره، كأن المطلوب التصفية لا التقديم للمحاكمة، وكأن أفراد المؤسسة دخلوا فيما نسميه شعبيا "عركة في خمارة" لا يلتزمون بقواعد الاشتباك والحفاظ على الأرواح كما هو منوط بهم، أو كما يتباهون بأنهم يحوزون أعلى مستويات التدريب.
إن تفكك المؤسسة الأمنية مرتبط بالأساس بعملية البطش الواسعِ التي يُسمح بها للأداة الأمنية من قبل النظام الحاكم، فالحاصل أن العنف من قبل الدولة ضد معارضيها يتم التغاضي عنه، فيتولد عند ذلك سلوك شاذ في دوائر أخرى، كالعنف مع الجنائيين من جهة والعلوّ على القانون من جهة أخرى؛ فعدم المحاسبة على العنف يرسل رسالة اطمئنان لمنتسبي الهيئة الشرطية، كما يستلزم من طلب الدولة البطش أن تغض الطرف عن تجاوزات أخرى لتحافظ على ولاء هؤلاء الأفراد، وكل ذلك يحول المؤسسة الأمنية "في المجمل لا كل الأفراد" إلى مجرمين بترخيص من الدولة، وبدلا من ضبطها سلوك الإجرام في المجتمع، تصير هي أحد أدوات ترويجه بسلوكها، بل وتطلب احتكاره.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الفساد السلوكي يَدخل الناحية المادية بشكل لازم، وقضية الأموال الأخيرة أحد الشواهد على ذلك، حتى أن فردا شرطيا "أمين شرطة" حُكم عليه برد مبلغ يقارب 20 مليون جنيها أي ما يجاوز مليونَا دولار، وهو مبلغ غير اعتيادي في ذلك الوسط المحدود ماديا، وتشير أنباء أخرى إلى إرساء مزاد مبنى تجاري على فرد آخر بمبلغ 35 مليون جنيها / ما يقارب 4 ملايين دولار، بخلاف الأرقام الأخرى الأكثر فجاجة المتعلقة بالضباط والرتب الأكبر، وذلك ما بلغ المجتمع بخلاف ما لم يبلغه، والحديث عن دلائل معاقبة هؤلاء لا ينفي الفساد الذي سمح بالوصول إلى تلك الدرجة من التضخم في المال غير المشروع، وغياب الأجهزة الرقابية أو تغييبها، وبالمقابل كل ذلك لا ينفي وجود من لم تتلوث سمعته المادية أو الأخلاقية بمال أو دم حرام.
ذكرنا في مقال سابق ارتباط تفكك المؤسسة العسكرية بتغير دورها وتحول وجهتها من الحدود الخارجية إلى المسائل الداخلية، لكن الحديث عن المؤسسة الأمنية يختلف، فتفككها مرتبط بتوغلها غير المرغوب في الشأن الداخلي الذي هو مناط تكليفها، كالتوسع في الرقابة على الأفراد والاعتقال بغير سند والقتل، فهناك فرق هام بين صور الأمن المتمثلة في العمليات الأمنية وبين مفهوم الأمن؛ فالرقابة بإذن قضائي عملية أمنية تصير مقبولة إذا صدرت دون شبهة تحيز أو استجابة لضغوط، والحفاظ على القيود المنظِّمة للعمليات الأمنية يحفظ الأمن بالمجتمع ويصوغ مفهوم الأمن المنضبط، لكن الحاصل أن الجهة الأمنية هنا توسعت في صور الأمن "العمليات" دون الالتفات لمفهومه، فنتجت تلك المثالب أو الخروقات في ثوب المؤسسة الأمنية، حتى صارت الأهواء متحكمة للدرجة التي تجعل أحد عقبات حلحلة الوضع المتأزم انتفاع أدوات النظام منه، وهو ما يُقال في تلك الأوساط من أن القضايا السياسية تدر عليهم أموالا طائلة، سواء من الزيارات أو من السماح بدخول ممنوعات للمعتقلين كالهواتف، أو إصدار مستندات رسمية، أو حتى تغيير الأحراز ونسف الأسس التي يمكن للنيابة الاستناد عليها لتوجيه الاتهام.
آثار ما سمحت به النظم المتعاقبة من إطالة الذراع الأمني نجنيه الآن من ثقافة أصَّلَت منهج التعذيب والاستعلاء، وأخرجت لنا رتبا تصدر عنها تصريحات في غاية السذاجة أو التضليل أو البذاءة، وهي مؤشرات التدني الثقافي والمعرفي والخلقي، في مهنة يفترض فيها خلاف ما نراه كليّة.