في بادرة تبدو غريبة على التقاليد السياسية
التونسية، دعت
حركة النهضة لفيفا من المثقفين والخبراء لتعرض عليهم الخطوط العامة لبرنامجها الفكري والسياسي الذي تستعد به لدخول مؤتمرها العاشر سنة 2016.
وعرضت زبدة النقاشات الداخلية طيلة سنة ونصف السنة من العمل الحزبي الداخلي. لم يجر الأمر بهذا في تقاليد الأحزاب التونسية منذ نشأت في تونس حياة سياسية وخاصة منذ صارت التعددية الحزبية أمرا واقعا.
لتفسير هذا التقليد الجديد سيظل هناك سؤال في النوايا: هل أن الحزب بصدد تأليف القلوب من حوله واستقطاب الكفاءات بمجاملاتها بانفتاح مؤقت أم أنه يعمل فعلا على تحوّل حقيقي وفعال من حزب تربى في السرية والمطاردة وينحو الآن نحو مدنية سياسية تكشف أوراقها وتعلن مبادئها وتعتمد على عقل الجمهور المحيط ليسمع منها لا ليسمع عنها؟ الإجابة عن ذلك برسم المستقبل وتطور هذا الانفتاح بعد المؤتمر؛ لذلك على المراقب أن ينتظر ويرى. ولذلك أيضا فإن ورقتي ليست في اتجاه استنطاق هذه النية بل هي مساهمة في النقاش العلني الحر.
التفكير الانفعالي
يسيطر على ورقات النهضة الفكرية موضوع تراه مُستغلقا ونراه مصطنعا. هو خروج الحزب من حزب إسلامي إلى حزب مدني. و بلغة الحزب حتى الآن الفصل بين الدعوي والسياسي أي تعديل أو تغيير المرجعية الإسلامية للحزب.
أما وجه
الانفعال في هذا التوجه فهو أن التفكير من هذه الزاوية يأتي استجابة لمطلب فرضته نخبة فكرية ليست مستعدة منذ ظهور الإسلاميين في وسط السبعينيات للتعامل معهم ككيان سياسي تونسي. وقد طُلب منهم في أول التسعينيات أن يتغيروا فتغيروا ورغم ذلك لم يُقبل منهم. وهذه الطلبات ما تزال مسلطة على الحزب وهو في موقع التأثر بها غني عن القول أن من يطلبون منها ذلك لا يتغيرون ولا يرحبون ولديهم دوما مطلب جديد بمنطق لو خرج الإسلامي من جلده ما عرفوه.
لقد قُرِئ كل تغيير في خطاب الإسلاميين وممارساتهم على أنه منافقة اللحظة والتربص بها لانقلاب إذا واتت ظروفه.
ويمكن استعراض خطاب تيار الحداثة عامة وتيار اليسار الثقافي خاصة لنجد أن المواقف من الإسلاميين الآن هي مواقفهم نفسها منهم في أواخر السبعينات.
وعليه فإني أعتقد أن التفكير تحت الطلب يحصرُ إمكانيات التفاعل الحقيقي المطلوب فكريا وسياسيا ويجعله فعلا انعكاسيا مرتبكا ويتغذى من التأثيم الذاتي.
إن الطلب على التغيير يأتي من جهة أخرى هي جهة شعبية غير إيديولوجية ولا هووية. وقد بدا لي أن البرنامج لا يهتم بذلك بقدر ما يُعبِّرُ عن خوف غريزي من الإقصاء فيهتم بكثير من التوسل وضعف الثقة في الذات بترضية النخبة الإقصائية التي لا تتغير وتطالب غيرها بالتغيير. مطلوب إذن الاستماع إلى جهة أخرى صاحبة حق على حزب النهضة وعلى كل النخب السياسية.
التحول من الأصولية إلى البراغماتية
أزعم أني مطلع على أدبيات الأحزاب السياسية التونسية وأعرف كثيرا من واضعيها وأزعم أن هناك تغييرات تجري بهدوء في المواقف الفكرية وفي السياسات.
وقد شجعت الثورة ذلك وهذا من المكاسب. لكن طريق التعايش السياسي مازال طويلا بين التيارات. وفيما أرى يبدو حزب النهضة حزبا يسارع في التغيير مقارنة بغيره من مكونات المشهد التونسي وخاصة مقارنته بتيار الإسلام السياسي العربي ذي المرجعية الإخوانية خصوصا.
لقد عطلت المظلومية الطويلة عملية التغيير وأعطت فرصة للمحافظين للإبقاء على مرجعية أصولية (إخوانية سلفية) بدعوى الحفاظ على جسد التنظيم وعلاج آثار المظالم. لكن رغم ذلك، يمكن التذكير بأن حزب الاتجاه الإسلامي كان مبادرا على الساحة المحلية والعربية إلى القبول بتأصيل الانتظام الحزبي وخوض الصراع الانتخابي وتحمل نتائجه منذ إعلان وجوده سنة 1981. على قاعدة المشاركة لا المغالبة. أي الخروج من منطق تكفير المجتمع إلى التعايش معه بوسائله ومواصلة العمل على تغييره.
وكان هذا خروجا لافتا عن فكر الإخوان وممارساتهم التنظيمية. لقد اختفى مفهوم الجاهلية من خطاب القيادات البارزة من ذلك التاريخ دون أن يعني ذاك أن الجسم كله منسجم وقابل بذلك فالجيوب السلفية لا تزال كامنة وتعبر عن نفسها بالرفض.
كان الحزب متفاعلا مع النضال الاجتماعي الذي فرضته قوى اليسار والقوى الديمقراطية ومنها تيار الإسلاميين التقدميين وما أحدثته الثورة الإيرانية في حينها في المنطقة من تحد للإمبريالية. فصار خطابه اجتماعيا ودخل المعترك النقابي وصنفت قياداته الطالبية نفسها ضمن لاهوت التحرر الإسلامي.
وعليه فإن شواهد كثيرة تحيلنا إلى أن الحزب قد بدأ بالخروج من الدعوي إلى السياسي منذ فترة طويلة. والقول بأن الحزب سيفعل ذلك الآن هو تجاهل لجزء كبير من تاريخه، وكأنه يعيد فتح باب فتحه سابقا.
يشكل هذا التغيير عندي خروجا من الأصولية الإسلامية إلى البراغماتية السياسية، وتجتهد في أصول الفقه وتحتج بالنص نفسه في اتجاه كسر الانعزال الذاتي عن المجتمع ووضع حد التطهر على حسابه أو تكفيره.
وقد أسلفت أن هذه الاجتهادات البراغماتية قُرِأَت دوما كنفاق سياسي وتربُصٍ من كل من شَعُر بأن النهضة قد تأخذ من حسابه فكأن ليس لها حق أن تتبنى القضايا الاجتماعية أو تدافع عن فلسطين أو أن تبني شبكات ولاء وتعاطف لصالحها.
هل يمكن للنهضة أن تواصل براغماتيها؟
إن الورقات المعدة حتى الآن تكشف حالة ارتباك في تحديد الوجهة وإن كان هناك إجماع واسع وليس شاملا على ضرورة تغيير المرجعية.
الارتباك أولا في تحديد سرعة التغيير. ماهي السرعة المناسبة للخروج من إرث الإسلام السياسي التاريخي. يوجد اتجاه محافظ يقدم الخوف من التفكك الحزبي ليبرر الحفاظ على الأصول. ويرى أن لقِطار الحزب سرعات مختلفة قد تفصل الرأس عن الجسد. لذلك وجب التأني بمنهج من يُخلص الحرير من سدر الواقع والتاريخ.
يطرح هذا التيار سؤالا: ماهي طبيعة الحزب وكيف يكون إن لم يكن إسلاميا (غول فقدان الهوية)؟ فيما يمضي التيار البراغماتي في تطوير فكرة الحزب المدني بمرجعيات إسلامية ويدخل هنا في ورطة فكرية عميقة تتجاوز الحزب ولحظته إلى سؤال في الفكر الإسلامي، عموما كيف يمكن أن تكون إسلاميا وتمارس سياسة وضعية وتشترك مع وضعيين، حيث لا مجال للفلسفة؟ الاجابة أو الهروب إلى الشعارات الكبيرة الخاوية.
الارتباك ثانيا في وجهة التغيير أي تحديد هوية الحزب المدني في المشهد السياسي والاجتماعي عامة ففي الوقت الذي نقرأ فيه عن تبني قضايا الفقراء نجد دفاعا عن نظام ليبرالي محافظ بما يكشف أن الوجهة ليست دقيقة أو واعية بمشروعها. هناك محاولة للجلوس بين كرسيين واحد اجتماعي والآخر ليبرالي محافظ. هذه المحاولة قد تبرر كل ما قيل سابقا عن منافقة اللحظة والتربص بها.
وستذكر التونسيين بالتجمع المنحل من حيث تقاليد تقديم الإجابات القاصرة عن كشف المشروع القائد للحزب (الذي لم يكن له أبدا مشروع). فضلا عن أنها لن تحقق أي اختراق مزعوم في الفكر الإسلامي الحديث ولن تجدد في الاجتهاد الذي يزعم النهضويون أنهم يفتحون فيه غــُررا.
التغيير قدر مقدور
التغيير قدر على النهضة وعلى غيرها ومن لا يتغير يموت. هذه قواعد الداروينية الاجتماعية مطبقة على غير الأنواع الحيوانية. وإذا كنتُ ذكرتُ أن الإسلاميين يتغيرون منذ زمن فلأني رأيت أن سبب بقائهم رغم المذابح المتتالية هو قدرتهم على التأقلم والتغيير وليس فقط التأقلم التنظيمي وتغيير القشرة السياسية بل إن البراغماتية الفكرية والسياسية قد أنقذت الجسم وفتحت فجوات في التفكير قد يدخل منها في المؤتمر العاشر هواء جديد لجسم الإسلام السياسي التونسي خاصة والإسلام السياسي العربي عموما.
وأعتقد أن وجهة الحزب الوحيدة المشروعة أخلاقيا والمنتجة سياسيا، هي التموقع ضمن مشهد الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (وسط يسار) وليس الديمقراطية المحافظة (يمين). ولا يتعلق الأمر بإعادة اختراع العجلة. لقد قدمت لنا التجربة السياسية الغربية (وللمسلم حق القراءة والتدبر) المشهد الذي تحقق فيه أكبر قدر من العدالة الاجتماعية والحريات الجماعية والفردية وهي جوهر مقاصد الإسلام ومنطوق نصه المرجعي.
في هذا الموقع وعلى هذه القاعدة سيجد الحزب نفسه وسط قواعده الشعبية أولا، وسيجد نفسه ثانيا قادرا على الاستقطاب السياسي والتحشيد. وهو حق مشروع لكل حزب، وفيه سيلتقي ثالثا مع طيف الأحزاب الاجتماعية الآخذ في الاتساع، بعد جدال طويل حول سبل تحقيق أهداف الثورة وتنزيل الدستور في الواقع.
في هذا الموقع أيضا، لن تكون الاستجابات للتغيير الفكري والسياسي طلبا من كتل ثقافية متكلسة (اليسار الثقافي) بل ستأتي الطلبات من القاعدة الشعبية والأحزاب الديمقراطية، الشريك الواقعي والذي لم يظهر أبدا رفضا استئصاليا لكل ما هو إسلامي. هذه القاعدة الاجتماعية ليست معنية بمن يذكرها بدينها بوعظ مسترسل بل لعلها تتعرف على دينها وتراثها وهويتها عندما يقوم حزب قوي بإعانتها على تملك حقوقها المادية أولا باعتبارها حقوقا لا مِنَّة من السلطة. وهذا هو الاجتهاد البراغماتي المطلوب الآن وهنا والذي نجده متأصلا في الديمقراطية الوضعية وغير معاد لأصول الدين الإسلامي.
أرى النهضة في مؤتمرها العاشر وما بعده تحتاج لأولوف بالم (Olof Palme) لكي تسير في جنازة جورج مارشيي (Georges Marchais) ويمكن لأولادها أن يقرؤوا دوما أبا حامد الغزالي بصفته رواية تاريخية.