عندما طلب الأستاذ فراس أبو هلال يدي الاثنتين، كي أكتب في عربي21، قلت له: عربي21؟ أحيي فيك التفاؤل، بالقفز بنا من عصر البخار إلى القرن الحادي والعشرين، ولكنه قال لي كلاما كثيرا عن سياسة الجريدة التحريرية، وكان من بين ما قاله أنها تهدف في ما تهدف إلى ترسيخ مكانة
اللغة العربية بين أهلها، فوجد كلامه هذا هوى في نفسي، ومن ثم (بفتح الثاء يرحمكم الله) قد تلحظون أنني أرِد حياض هذه اللغة كثيرا في مقالاتي هنا، رغم أنني أعرف تماما أنني لست من بين أفضل عشرة من كتابها تمكُّنا من العربية.
وأنا سوداني، أي أنتمي الى أحد أفقر بلدان العالم، بل بلد يتقدم كل سنة، عشر سنوات إلى الوراء، حتى كاد يعود إلى العصر الحجري الوسيط، ولكنني أحبه من كل قلبي، وكان بإمكاني الحصول على جواز سفر بريطاني في تسعينيات القرن الماضي، ولكن لم تكن حكومة بلادي تسمح وقتها بازدواج الجنسية لمواطنيها، فكان علي أن أتخلى عن جواز سفري وجنسيتي السودانية، مقابل أن أصبح من رعايا التاج البريطاني، وبدون تردد اتخذت القرار الذي لم أندم عليه قط: لن أتنازل عن جنسيتي السودانية (وجلب علي ذلك الاتهام بالبله والخبل، وهناك من قال إنني اتخذت القرار الخطأ لأنني من ذوي الحاجات الذهنية الخاصة).
أتذكر الشاعر الأموي جرير بن عطية، الذي أتاه أحدهم في بيته، وسأله: من أشعر العرب؟ فقاد جرير السائل إلى حيث مربط البهائم، وأشار إلى رجل رث الثياب وبائس المنظر، يرضع "مباشرة" من ضرع معزة، وقال ما معناه: إن إنسانا يفاخر بمثل هذا الأب جميع شعراء العرب ويفحمهم، لهو أشعرهم..
وأحب اللغة العربية، رغم أنها - كما ذكرت مرارا - ليست لغتي الأم، ولكنها قدمت لي ما لم يكن الجواز البريطاني سيقدمه لي: الانتماء إلى قبيلة كبيرة تعيش ما بين طنجة والمنامة، بل والزعم بأن المتنبي – وليس كافور الإخشيدي – من أقاربي، بل والتباهي بأن أول من وضع قواعد النحو العربي، ظالم بن عمرو بن سفيان اختار لنفسه اسم "دلع" هو أبو الأسود الدؤلي، فلو كان هذا العربي القح، لا يرى بأسا في أن يوصم بالسواد، فلِم لا يجوز لشخص أسود مثلي أن يتباهى بالانتماء إلى أمة العرب رغم أن معظم أفرادها ذوو بشرة "فاتحة"؟
وأعرف يقينا أنني أبعد ما أكون عن امتلاك ناصية العربية، ولكنني على الأقل لا أكف عن ورود حياضها بانتظام، لأتقن السباحة فيها بِخُيلاء واقتدار، ولن أكف عن الدفاع عنها، خاصة وأن هناك من يدعون أنهم نسل عدنان وقحطان، يقومون بـ"التعدين" في مناجم اللغات الأجنبية، ثم يتكلمون ويكتبون عربية مصابة بالقحط.
وما من جهة ألحقت العاهات بالعربية كوسائل الإعلام العربية في عالمنا المعاصر، بعد أن تسلل إليها ببغاوات عقولها في آذانها، وكتائب من ذوات الثدي، يجلسن على الشاشات ويمارسن اللغو، وهن يستخدمن تضاريس أجسادهن لتعويض عجزهن الفكري والمعرفي واللغوي، ولا أقصد بعبارة "ذوات الثدي" جنس النساء كافة، بل خضراوات الدمن، ففي التحليل الأول والأخير فجميع بني البشر من الثدييات.
كم مرة فُجعت بكلمة "تفاجأت"، وتفريعاتها تفاجأنا وتفاجأتم، من نفر يحسبون أن بناء كلمة "فاجأ" للمجهول يفقدها عنصر المفاجأة، فلا يقولون فوجئت، وفوجئنا وفوجئتم، وما قولك في تأنيث "احتمال"؟ وأي ذنب جنت الكلمة لتصبح مؤنثة في مجتمع يضطهد الإناث؟ ما العيب فيها حتى تصبح "احتمالية" تقوم مقامها دون سند قانوني أو تاريخي؟ وكيف تتصل على فلان، أو تتصل عليك فلانة؟ هذا قد يكون جائزا في العامية التي ترفض المثنى وتجعله "جمعا"، ولكن العربي يتصل "بـ"فلان وتتصل "به" فلانة
فقد صار الإعلام العربي يحسب أن الإبداع يعني إتيان "البدع"، فصارت عبارة من شاكلة "موقف كهذا" موضة قديمة، وحلت محلها عبارة "هكذا موقف"، وهي عبارة مجهولة الأبوين، ولأن الوقت عند إعلاميينا من ذهب، ولأنهم يميلون إلى ترشيد الإنفاق، فقد صاغوا كلمة الركمجة لأن "ركوب الأمواج" عبارة طويلة وكثيرة المفردات، وكان الاتحاد العربي للاتصالات، قد تمخض فولد كلمة هجينا خديجا، ماتت سريريا فور ولادتها، وتلك الكلمة هي "الطبقصلة" لتقوم مقام "فاكس"، وقالوا إن تلك الكلمة التي تسبب التهاب القولون لمن ينطق بها، اختصار لكلمتي "طبق الأصل".
وفي الأسبوع المقبل بإذن الله أستعرض بعض الجرائم بحق اللغة، بسرقة بعض ما جاء في كتاب صديقي الشيخ الدكتور عبد السلام البسيوني، وهو داعية إسلامي وخطاط وخطيب جهبذ وإمام "جمعة"، عرفته في دولة قطر طوال ربع قرن، وهو مصري من زفتا، وكان أصدقاؤه من المصريين ينادونه "عبسلام الزفتاوي"، فنبهته إلى أنه لن ينجز شيئا باسم كهذا، وأقنعته بالاعتصام باسم العائلة (البسيوني)، بدلا من زفتا، والكتاب يتناول تجربته كمصحح لغوي في المجلات والصحف.