بنت صغيرة تـُـسحب حية من تحت ركام بيتها الذي طمر كل باقي أفراد أسرتها في قصف قوات النظام السوري للأحياء السكنية بالبراميل المتفجرة، طفل صغير يرى مصرع إخوته أو أمه أو أبيه أمام ناظريه برصاص طائش أو طلقة قناص أو شظية قنبلة، آخر فقد معظم أسرته في القصف الكيمياوي في الغوطة ولم ينج سوى هو وأخته الصغيرة، آخر لم تجبه أخته الرضيعة عندما حاول مداعبتها لأنها جمدت بالبرد وماتت في مخيمات الصقيع المرمية في لبنان، طفل ذهب أبوه راكضا لإحضار الخبز لهم، فلم يعد لأن الطائرات قصفت السوق الشعبية غير البعيدة عن بيتهم، طفلة رأت أمها تغرق أمام عينيها وهي تصارع أمواج المتوسط ممسكة برضيعها فيما أنقذها هي خفر السواحل، أخرى فقدت بعض إخوتها إنهاكا وجوعا في رحلة الهروب عبر السهول والتلال إلى أوروبا بحثا عن الأمان ولقمة العيش، صديقتها وجارتها التي تركتها وراءها ترى والدها الذي لم يبق لها سواه في هذه الدنيا يصفع ويهان عند حاجز لقوات النظام قبل أن يأخذه الجنود إلى مكان لا تعرفه ولم يعد منه إلى حد الآن….
مجرد أمثلة لحالات بالآلاف المؤلفة لأطفال سوريين سرقت طفولتهم وصودر مستقبلهم، ومن منهم نجا من بطش النظام وإجرامه قاده حظه العاثر إلى أن يعيش أو يلجأ إلى مناطق تسيطر عليها تنظيمات متحجرة لم تعرف تقوى الله سوى في إطلاق لحى الرجال وحجب النساء وجز الرؤوس وقطع الأيادي.
لقد صار
أطفال سوريا ضحايا في كل الأحوال، سواء على يد النظام أو يد بعض من يزعم أنه جاء للإطاحة به أو وقع في ما لا يقل مرارة ومنه ما ذكرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في تقرير بعنوان "أياد صغيرة وعبء ثقيل" نشر في عمان مؤخرا من أن أربعة من كل خمسة أطفال سوريين يعانون الفقر، فيما يوجد 2,7 مليون طفل سوري خارج المدارس.
وفي لبنان مثلا وجد التقرير أطفالا بعمر ست سنوات فقط يعملون في بعض المناطق، فيما يعمل ثلاثة أرباع الأطفال السوريين في العراق لتأمين قوت عائلاتهم.
وبخصوص المضاعفات النفسية الرهيبة، رأت "اليونيسيف" أن مليوني طفل لاجئ هم بحاجة إلى دعم نفسي وعلاج بسبب توالي أصوات الانفجارات الرهيبة التي يسمعونها يوميا، ومشاهد الدمار الهائلة التي تثير فيهم الفزع والخوف المزمن، ناهيك عن مشاهدتهم مقتل وإصابة أفراد أسرهم وأقرانهم، الأمر الذي يزيد من مخاوف تعرضهم لمستوى مرتفع من الشعور بالبؤس خاصة عند أولئك الذين تعرضوا للانفصال عن أسرهم أو تشردوا.
ويضيف هذا التقرير الحديث أن الأطفال اللاجئين يواجهون صعوبات كبيرة في تكملة مسارهم التعليمي أهمها الأوراق الثبوتية التي تطلبها الحكومات المضيفة للاجئين، وصعوبات التأقلم الاجتماعي مع المحيط كاللهجة ومنهاج التعليم، فضلا عن صعوبات مالية تتمثل في الأقساط التي تتطلبها المدارس الخاصة في الدول التي لم تدمج الأطفال السوريين في المدارس الحكومية مثل مصر.
ومن ضمن المشكلات التي يعانيها اللاجئون السوريون كذلك عدم تسجيل حديثي الولادة إثر اضطرار عائلات بكاملها إلى الفرار من سوريا ومعها أطفال حديثو الولادة لم يتم تسجيلهم بعد، أو تواجهها معوقات لتسجيل أبنائها المولودين في أرض اللجوء مما يعقد كل حياتهم لاحقا.
و في مارس/ آذار الماضي قدرت "اليونيسيف" عدد الأطفال السوريين الذين هم بحاجة ماسة وسريعة في مجالات الصحة والتربية والتعليم إلى 7.5 مليون وهو ما يتجاوز تعداد سكان عدد من الدول العربية. السؤال الخطير هو ما مصير هذا "الشعب" الكامل من الأطفال عندما يكبر بكل هذه المآسي والكوارث التي ستظل محفورة في ذاكرته إلى الأبد؟؟ خاصة وهم ينظر إلى كل العالم وقد تخلى عنه وتركه فريسة سهلة إما لنظام لا يرحم أو تنظيمات متطرفة عمقت بؤسهم أو لأقدار يواجه فيها الجوع ومذلة اللجوء وخطر الموت في البر أو البحر.
ترك العالم كله هؤلاء الأطفال يقتلون أو يشردون ليجدوا الموت متربصا بهم من جديد جوعا أو مرضا أو في رحلة البحث عن وهم الأمان في أوروبا وغيرها من أصقاع باتوا يتعاملون معهم كوباء يجب التصدي له بأي ثمن بلا رحمة.
"شعب" الأطفال هذا سيكبر يوما مشبعا بمشاعر الحقد ومخلفات الجهل وسيدفّع الجميع ثمن التقصير في حقه، كيف وبأي طريقة..؟ لا أحد يمكنه الجواب الآن ولكن الأمر سيكون قاسيا للغاية على الكل وسيستمر ذلك لأجيال. وفي الذاكرة العربية ستصبح مأساة سوريا في مقبل السنوات أشد وأمر من مأساة الفلسطينيين قبل أكثر من ستين عاما. ولهذا علينا من الآن أن نتخيل قليلا ما الذي ينتظرنا وينتظر العالم كله بلا استثناء.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)