تركت قلبا وروحا وثابين متجددين يسعيان خلف الخير آناء الليل وأطراف النهار، بل تركت كل الحياة هناك عند أعتاب اعتصام "
رابعة العدوية"، وكان يلذ لي الهرب من القاهرة الكبرى.. بل الدنيا، كل الدنيا، كي أتفرغ وزوجي، حفظها الله تعالى من كل مكروه وسوء، كي نذهب إلى الحي البعيد.. القريب من كل مسام الشعور والإحساس، لم تكن محبة الحي ترحم قلبي..
بل كنت إذ أفتقد المواصلات التي تقلني إليه أحيانا أدور مع قرين الروح الآخ الأقرب إلى النفس والتكوين من أحياء البشر الدكتور نبيل فولي، أدور برفقة زوجة له محبة لنصرة هذا الدين عبر أحياء القاهرة حتى نرتاح هناك، وهل أنسى إن نسيت ليلة هممت فيها بمفارقة المعتصمين به.. فلقيني شاب صغير في السن قائلا:
ـ لا تتأخر علينا..
ـ سأفعل بإذن الله..
ـ كل ساعة تتأخر فيها في العودة.. تهدد حياتي لإنه كلما قل العدد كلما زادتْ احتمالات الاقتحام!
إنه واحد من الأفاصل الذين كانوا مكلفين بحماية مدخل الميدان الرئيسي، ترى أين هو الآن؟ اللهم إني أسألك الرحمة له هو وجميع الذين اكتحلتْ عيناي برؤيتهم عند المداخل والمخارج .. أنقياء الصدر جميلي الطلعة .. مبتسمي الوجوه.. افاضل لا تشك في ذلك يذكرون الله فيما تهددهم الوفاة .. ليس لمثلي إلا شرف الانتساب إليهم من باب مقولة أحمد شوقي، رحمه الله:
وما مدحت محمدا بمقالة.. ولكن مدحتْ مقالتي بذكر محمد..
ومع فارق التشبيه الهائل، صلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، فإنني ما مدحت رابعة بمقالة ولكن مدحتْ مقالتي بذكر رابعة وما تزال..
إنذار كاذب بالاقتحام قبيل الاقتحام الحقيقي بليال.. أرى شبابا يرتدي ملابس بسيطة عادية يهرولون نحو الباب الرئيسي أسلحتهم.. لا سلاح لديهم، نياتهم أسأل الله أن تكون مخلصة كي يتقبلهم في الصالحين الشهداء، المصاحف إما بإيمانهم أو بالجيب الأعلى من قمصانهم، وذكر الله على أفواههم.. من في الدنيا مثل هؤلاء؟ كانوا يقبلون حينما كان الناس من حولهم يتراجعون..
فتاة صغيرة ربما في السنة الثانية أو الثالثة من تعليمها وكانت ضمن وفد فتيات أزهريات ثاني يوم المنصة إذ تحرك وفد من رابعة إليها كتبتْ على لوحة رفعتها عالية في ضوء الشمس:
ـ فدتك عيوني يا بلادي فقط تكوني بكل خير.. ولا تصابي بالعمى!
المشاهد تترى في العقل.. وتحتار الذاكرة ماذا تختار وماذا تترك..؟!
في ركن من الميدان، غير بعيد عن المنصة، مجموعة من الرجال متشابهو الملامح .. فريق إعداد فيلم سينمائي عبر شركة تجارية لم أعد اذكر اسمها:
لماذا جئتم؟:
ـ نريد عودة الرئيس
مرسي إلى الحكم .. الفيلم الذي نعده.. بل شركتنا وحياتنا وأكل عيشنا لن يسمحوا بهم.. جميعا.. "العسكر"!
لأول مرة تتفجر على اللسان جملة من قبيل:
ـ من الرائع ان تجىء الحياة "متكاملة" بتعانق الخاص والعام من حياتنا!
فورا حدثني كبيرهم عن إنهم إنما جاؤا مرضاة لله تعالى في الأساس..
ونعمى بالله!
إحدى المحلات الخاصة جعل صاحبها تعريفة خاصة لدخول دورة المياه منها، على بدائيتها، فقبل الجميع .. بعد الإفطار أخذ أحد البسطاء يتسامر معه قائلا:
ـ الشيوخ "دول" عليهم أفعال غريبة والله .. كنت منشغلا فلم أفطر فأتاني أحدهم بوجبة قائلا "شكلك" لم تفطر..
هل من السهل بعد الضحك على هذا الشعب وتغيير قناعاته؟!.. أم إن الذين تصدوا لخدمة الناس بالغوا في ذلك؟
قبيل رمضان بأيام أخذت زوجي وذهبنا نأكل عند "عربة فول" من كثير من العربات التي كانت "تسترزق" من الميدان.. وفيما كنا نأكل على شبه "بَسطة" كانت إلى جوارنا امرأة تبدو فاضلة لكن معتدلة الثياب .. لا تشير إلى كونها من
الإخوان بحال من الأحوال ... سألتها زوجي لماذا أنت هنا فقالت:
ـ أبو الولاد مصمم ونحن من ارياف المنصورة.. ولا أريده أن "يزعل" مني!
ترى هل حفظ الله لها زوجها وأعاده إلى بلده.. أم هون عليه رحلة الحياة كلها؟!
عشرات العشرات من مخلصي البشر بل من البسطاء..
قبل أن يفتتح الزميل العائد إلى الحياة "نور الدين عبد الحافظ" أمسية بعد إفطار أحد أيام رمضان كان إلى جواري رجل بسيط جدا، قال إنه سائق جاء يستزيد من "النفحات" مع أناس طيبة تصلي وتصوم.. ويعيشون في سلام.. قبل أن يمضي قال لي.. أكلت معهم ألذ طعام في حياتي.. يجب أن أعود..!
شباب في مقتبل العمر ومعهم فتاة كذلك.. اضطرني الزحام في إحدى الليالي من شهر رمضان إلى الصلاة خلف ساتر بحارة من حواري الميدان التي توزعت بحسب تخطيط الخيام وما شابه.. وفي مكاني كان بخار السجائر يحاصر وجهي وآخرين عوضا على "قفشات" الشباب.. بعد الصلاة أعتذر بشدة احدهم وفيما كنت أبتسم مؤكدا إنني مثله ضيف على الميدان.. محاولا استيعابه.. كان مجاوري يقبل رأسه والشاب ماخوذ بروح التسامح التي يبديها الرجل!
عشرات بل مئات المواقف التي لا تنسى.. الرجل البسيط بواب العمارة التي كنت أقيم فيها آنذاك استحلفني أن أنقل مائة جنيه للمجاهدين هناك، على حد قوله، وما نجحت في الفكاك منه أو من كلماته ..حتى أخذها مني احد المعوزين هناك.. ولما قلت قال:
ـ أو ليس من أهل رابعة.. هي له ..
أحد الشهداء.. فيما بعد.. لا أنساه وذكرني به الصديق الرائع محمد عادل حفظه الله .. كان يدخل خيامنا يوم 28 من يونيو قائلا:
ـ بالله عليكم اذكروا الله تعالى وأدعوه لنا.. بمثل هذه الكلمات ينصرنا الله!
لم يتم الشاب الاعتصام واختطفه إلى قدره قناص أشر..
امرأة متوسطة العمر اسمها "رحاب" على ما أذكر كانت بالنهضة هذه المرة.. تبدو عادية مبتسمة على الدوام سألتها:
ـ لماذا أنت هنا؟!
قالت بسرعة:
ـ لأن العسكر سرق صوتي لخمسة مرات من الصناديق.. أنا هنا أبحث عن صوتي هل ألقوه في صندوق القمامة؟!
بقي أنه ليلة
مجزرة الحرس الجمهوري الثانية كنت أرى لما ذهبت لاصطحاب زوجي لرحلة العودة مع الصديق نبيل ..بعد الواحدة بعد منتصف الليل.. رأيت ما فسرته "طوبا" مغطا بحصر فلما سألتها قالت:
أولاء سيدات فضليات جئن من بلاد بعيدة ولا مكان لنومهن إلا الشارع فتغطين من رؤسهن لخمص أقدامهن!
ترى أين هن الآن وهل يسامحننا؟!
وللحديث بقية مادام في العمر بقية.. بإذن الله..