أنفقت بريطانيا خلال العام المنصرم نحو 90 مليون جنيه إسترليني، في إعداد منهج جديد للغة الإنجليزية لمختلف المراحل الدراسية، وعندما عرض المنهج على خبراء التربية والتعليم، أوصوا بوضعه في الأرشيف أو المتحف، لأن به جرعا زائدة من قواعد اللغة والنحو.
عندما انضممت إلى كتيبة كتاب "عربي21"، كتبت عدة مقالات لطمت فيها الخدود على بؤس تحصيل الشباب العربي من لغتهم الأم، وكان عنوان أحد تلك المقالات "الجاهل باللغة عدو نفسه"، وآخر حمل عنوان "التعلل بصعوبة اللغة هو العلة"، وتباهيت بأنني أمارس العمل الصحفي منذ عقود مستخدما العربية، وكان منشأ التباهي أنني ولدت ناطقا بغير العربية.
لساني الأم هو "النوبية"، وهي لغة حامية، وبلا أي قواسم مشتركة مع العربية، ويكفي أن أشير هنا إلى أنها لا تعرف الحروف/ الأصوات "ث، ح، خ، ذ، ز، ص، ض، ط، ظ، ع، غ"، وليس في قواعدها النحوية مثنى أو تذكير وتأنيث، ومع هذا عشقتها وبادلتني حبا بحب، ولم يكن لسمسار "مدرس" كبير فضل في قصة الحب تلك، بل إن مدرسي
اللغة العربية كادوا أن ينسفوا تلك العلاقة الجميلة، ولكنني تمسكت بها وعززتها بالاختلاء باللغة في وقتي الخاص.
وبالرغم من حبي الشديد للغة العربية فإنني أظل أتوجس من الوقوع في الخطأ وأنا أكتب بها، وقد صاحبتني هذه العقدة منذ دخل "زيد وعمرو" حياتي المدرسية، من خلال مدرسي اللغة العربية الذين أشبعونا نحوا وتطبيقا وضربا، وكانت علاقتي بمدرسي اللغة العربية طيبة، بدءا بمرحلة الأفعال الثلاثية، ومرورا بالفاعل، ثم انتهت عند نائب الفاعل.
كانت الرؤية في تلك المرحلة واضحة بعض الشيء، وفجأة ظهر المفعول به، وقلنا: لا بأس، ولكنه كان يجر وراءه المفعول معه، والمفعول لأجله والمفعول بالوكالة، والمفعول المطلق والمفعول النسبي، والمفعول بالبشاميل، ثم دخلت المنهج عبارات سريالية مثل: الفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره هو.. وإن الفعل في محل نصب كذا وكذا، وأحيانا تصل الشطحات اللغوية إلى درجة أن يقال لك إن جملة مؤلفة من تسع كلمات - مثلا - هي في محل رفع خبر المبتدأ.
وبالطبع، فمن حق أي فاعل أن يتستر على فعلته، ولكن ليس من حق أحد أن يحول دروس اللغة إلى ما يشبه دراسة القانون الجنائي، وقانون الإثبات، ويطالبني ويطالب غيري بالعثور على الفاعل والقصاص للمفعول به، مع توخي "التمييز"، وتقصي "الحال" ودراسة الظرف الزماني والمكاني للفعلة، التي استوجبت اختفاء الفاعل، أو إلقاء تبعة ما حدث على نائب الفاعل، ولا احسب أن قواعد اللغة العربية جنت على شخص كما جنت على نائب الفاعل، لأنهُ – كما نبهت مرارا - كان في الأصل كان مفعولا به، أي مجنيا عليه، وفجأة، ولأننا نسير أمورنا بالواسطة والمحاسيب، يتحول هذا المفعول به إلى نائب فاعل، ورغم أن ذلك يتم عادة بالرفع فإن هذا الترفيع لا يخفي المحاباة في إعفاء الفاعل من المسؤولية وتحميلها لمن كان ضحية الفعل والفاعل الأصلي.
وقد حسبت بعد أن غادرت المؤسسات التعليمية أن صلتي بالنحاة وأفانينهم العجيبة في تعجيز كل من يقرأ أو يكتب قد انتهت، ولكنني كنت مخطئا، فقد اتضح لي أن لهم عملاء في كافة دور الصحف ووسائل الإعلام، يؤشرون على كل كلمة باللون الأحمر لتستقيم وفقا لوصايا أبي الأسود الدؤلي، أول من وضع قواعد اللغة العربية ففتح بذلك شهية سيبويه الذي ملأ اللغة بالمسامير والبراغي والأطراف المدببة.
وجاء من بعدهما ابن مالك الذي صاغ تلك القواعد في ألف بيت من الشعر الطلسمي، وقد كان الدؤلي مشهورا بالبخل وكان يصوم ثلاثة أيام بلياليها لضغط المصروفات "وتطفيش" الضيوف ويغلب الظن عندي أنه تفادى التبسيط، وعمد إلى التعقيد كي يتحاشى الآخرون الاقتراب منه، لأن الاقتراب يؤدي بالضرورة إلى ممارسة كرم الضيافة. ثم صار الكمبيوتر مدرسا ويضع علامة خطأ تحت بعض الكلمات حتى لو كانت صحيحة.
ثم دخل الدؤلي وسيبويه وابن مالك بيتي بعد أن كبر العيال، وحان أوان تنفيرهم من اللغة العربية عبر المناهج المدرسية، وقد عرضت على عيالي مكافآت مالية نظير إعفائي من إعراب الجملة الواحدة، ولكن العيال رفضوا تلك العروض وأرغموني على أن أبدأ مجددا من نقطة الصفر مع قواعد النحو، فشرعت مرة أخرى في التعامل مع "كان" وأخواتها اللاتي لا أحد تزوجهن لقبحهن، ولكنني أجد لذة لا حد لها عندما أقول لعيالي إن "كان" فعل ماض ناقص، وبالتالي فإنها وأخواتها سيبقين عوانس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومع كل هذا فإنني أجد نفسي ملزما بمراعاة قواعد الضبط والربط المنصوص عليها في ألفية ابن مالك حرصا على مستقبل عيالي الدراسي، مع تشجيعهم على القراءة "العامة"، بعيدا عن "ميكانيكا" اللغة.
ولا يحسبن أحد أنني أعاني من الإحباط لأنني لست متمكنا من تلك القواعد. بالعكس اكتشفت أن الذوق والفطرة السليمة المكتسبتان بالإكثار من قراءة الكتب الرصينة، هما خير الأدوات لامتلاك ناصية اللغة. وليمت أعضاء حزب سيبويه بغيظهم، وستحيا هذه اللغة الجميلة، برغم أن المناهج المدرسية تعمل على قتلها بتنفير الناس منها.