لقي العديد من
المصريين حتفهم وهم يحفرون
قناة السويس، بعدما سيق العمال إلى ساحات الحفر فقضى بعضهم؛ إما عطشا نتيجة نقص مياه الشرب، أو مرضا نتيجة فتك الأوبئة بهم. هكذا أجدى الشعب المصري ضريبة حفر قناة السويس كما يرويه كتاب "
السخرة في حفر قناة السويس" لمؤلفه عبد العزيز الشناوي.
ويكشف الكتاب، حسب تقرير أعدته عنه، صحيفة الشروق، كيف اتفق والي مصر سعيد باشا ومهندس الاستعمار الفرنسي المسيو فرديناند ديلسبس في خمسينيات القرن 19، على استغلال عمال السخرة المصريين الذين لم يجدوا منفذا للهرب من مصيرهم.
يقول الكتاب إن المهندس فرديناند ديلسبس حصل على امتياز إنشاء قناة السويس بعقد أطلق عليه "الفرمان الأول"، والذي خول لفرنسا امتيازات واسعة مقابل شروط مجحفة لمصر، بموافقة من والي مصر محمد سعيد باشا. من بين هذه الامتيازات الترخيص لديلسبس بإنشاء وإدارة شركة تشرف على حفر قناة السويس، واستغلالها لمدة 99 عاما تبدأ من تاريخ افتتاحها للملاحة، مع إعفاء الشركة جمركيا على جميع الآلات والمهمات التي تستوردها من الخارج.
ومن بين الامتيازات أيضا، إعطاء الشركة الحق في أن تستخرج بدون مقابل جميع المواد اللازمة لأعمال القناة والمباني التي ستكون تابعة لها من المناجم والمحاجر المملوكة للحكومة، في حين لن تتقاض الحكومة المصرية مقابل كل هذا سوى 15% سنويا من صافي أرباح القناة، و75% من الأرباح يتقاضاها أصحاب الأسهم.
ومن أبرز أخطر الاميازات التي انتزعتها
فرنسا من والي مصر وضمنت في عقد الشركة، هي حصولها على أراض شاسعة بدون مقابل مع أحقيتها إن أرادت حفر ترعة للماء العذب في الحصول على الأراضي الواقعة على طول جانب الترعة، مع ريها وزراعتها واستغلالها بدون دفع ضرائب لمدة 10 سنوات، كما أعطى سعيد باشا الحق لشركة القناة في بيع ماء النيل المار عبر الترعة للفلاحين الراغبين في ري أراضيهم.
لكن
بريطانيا عارضت الامتيازات التي حصلت عليها فرنسا في ذلك الوقت، واعتبرت مشروع القناة "مشروع سياسي فرنسي، يهدف لامتلاك مصر، وضرب الممتلكات البريطانية في الهند وغيرها"، باعتبار أن هذا العقد سيجعل من ديلسبس الحاكم الفعلي لمصر، وهو ما يهدد المصالح البريطانية في مصر والهند.
إضافة إلى أن الأيدي العاملة في المشروع شكلت قلقا لبريطانيا نتيجة الوضع السياسي القائم في مصر في تلك الفترة، وتمتع الجاليات الأجنبية في مصر باستقلال في التشريع والقضاء والإدارة، وهو ما خوف من أن تتحول مصر إلى مستعمرة فرنسية عبر استقدام فرنسا عمالا فرنسيين يستقرون مع مرور الوقت.
مشكلة الأيدي العاملة اللازمة للعمل بالقناة، لم تغب عن بال من في القسطنطينية، وهو ما يظهر برقية أرسلها كامل باشا من القسطنطينية يحذر فيها الوالي سعيد من عواقب تأييده لمشروع القناة والسير وراء فرنسا وديليسبس.
تخوفات بريطانيا استغلها المهندس الفرنسي ديليسبس لصالحه، وحذر بدوره والي مصر من خطورة استقدام اليد العاملة الفرنسية على مصر. وهو في قرارة نفسه يعرف أن استقدام عمال فرنسيين ليس في صالحه نظرا للأجور الكبيرة التي سيحتاجونها، مقابل إنتاجهم الضئيل بالمقارنة مع نظرائهم المصريين المتعودين على الصبر والجلد وتحمل الجو الصحراوي، في هذا الصدد يقول صاحب الكتاب: "إن المصريين تعودوا على الاخشيشان والتقشف والقناعة، فيما الأوروبيين يميلون إلى الإفراط في الخمور، والنزوع للملذات والنسائيات والإنكباب على لعب الميسر". ووقت الشروع في الحفر لم تستقدم فرنسا الآلات الكافية لانجاز المشروع، ما يكشف النية المبيتة عندها لاستغلال المصريين.
لم يتوقف استغلال فرنسا عند هذا الحد، كما يكشف الكتاب، بل إنها وقعت عقدا آخر مع مصر يلزم الشركة بالتزامات قليلية، مقابل انتزاعها من مصر امتيازات جديدة.
أما أهم بنود العقد في باب الالتزامات فهو البند الذي نص على أن يكون عدد العمال المصريين في الشركة 4/5 من مجموع العمال. وهو البند الذي مكن فرنسا من التغلب على المعارضة البريطانية، وتوفير الموارد المادية التي كان سيتطلبها استقدام العمال الأجانب للعمل في القناة.
هذا البند كان هو الأساس لنظام السخرة الذي وضعته فرنسا، بعد أن استصدر ديلسبس لائحة من باشا مصر سميت "لائحة استخدام العمال المصريين في أشغال قناة السويس"، وهي اللائحة التي تسببت في إكراه حوالي ربع مليون مصري كأكبر حشد آدمي في تاريخ الشركة على العمل في حفر القناة، بالنظر إلى أن تعداد سكان مصر وقتها كان 4.8 مليون نسمة، وذلك في العام 1862.
وهو ما كلف مصر بعد ذلك 75 مليون فرنك فرنسي لإلغاء بند السخرة كتعويض للشركة، علما أن راس مال الشركة 200 مليون فرنك.
وحددت اللائحة أجور العمال ووسائل الطعام، وإعداد ماء الشرب ومواعيد دفع الأجور، بمبلغ يتراوح بين قرشين ونصف القرش و 3 قروش في اليوم للعامل الذي يزيد سنة على 12 سنة من العمل، أما العامل الذي يعمل أقل من 12 سنة، فيتقاضى قرشا واحدا، وهو أحد أوجه الخطورة والسخرة في العمل لأن مشقة العمل في الحفر لا تتشابه مع غيرها من الأعمال، حيث السفر الطويل في ساحات الحفر في البرزخ، والأخطار التي تحف بالجميع هناك من قلة مواد التموي، وعدم إعداد المساكن لمبيتهم، وندرة الماء وتأخر وصوله إليهم، وهو ما يقطع بأن تلك الأجور زهيدة وتافهة إذا ما تم مقارنتها بالأخطار، أو بتلك التي يتقاضاها العامل الأجنبي في بلده.
بالإضافة إلى كل هذا فرضت الشركة عقوبات على العمال الذين يحاولون الهرب، عبر مادتين وردتا في اللائحة، بالإضافة إلى فرض حراسة شديدة عليهم أثناء سفرهم من وإلى العمل. وهو ما يكشف إكراه العمال على العمل مقابل أجور زهيدة.