في أي مجتمع من المجتمعات، يكون من الطبيعي وجود العديد من الظواهر الطريفة والشخصيات العجيبة التي تتحدث وتتصرف بصورة غريبة، لكن الأغرب أن تتبنى النخب هذا الخطاب في
الإعلام وحتى السياسة.
قبل ما يقرب من عام، ظهر شخص يسمى "أحمد
سبايدر" يتحدث عن مؤامرة تقودها إحدى الشخصيات الكارتونية "أبلة فاهيتا" لتنفيذ تفجيرات إرهابية في أنحاء
مصر. دعوة وجدت صدى كبيرا لدرجة ظهوره على قنوات فضائية للحديث عن مؤامرته المزعومة، ووجدنا إحدى هذه الفضائيات تقوم بعمل "مواجهة" بين سبايدر وشخصية "أبلة فاهيتا" في حلقة غير مسبوقة.
كان هذا بداية لانتشار خرافات عديدة في سماء الإعلام والسياسة في مصر، تتجه إلى الرموز والشيفرات ومحاولة استنتاج معلومات وتفسير ظواهر بناء عليها، وقد حفلت مصر بأمثلة عديدة من هذا النوع في الأشهر الماضية.
لكن أشهر وآخر هذه الخرافات، كانت حديث وسائل إعلام عن "إشارة الذبح" التي زعمت أن الرئيس المعزول قام بها في قفصه في يوم اغتيال النائب العام، المستشار هشام بركات. والتي كانت عبارة عن حركة عادية قام بها لترتيب هندامه.
لم تستغرق الإشارة المزعومة إلا جزءا من الثانية، ولم تكن بالطبع تتعلق بأي شيء يخص النائب العام، كما أن الإعلاميين وقعوا في تناقض فج يكشف عن طبيعة الموضوع الهزلي الذي يتحدثون فيه، فمنهم من قال إن الإشارة كانت قبل عملية الاغتيال، إيذانا ببدئها، وكأن الجناة كانوا ينتظرون إشارة منه للتنفيذ أو يحتاجون شيئا من هذا القبيل، ومنهم من قال إنها كانت بعد العملية في إشارة لإتمامها ومقتل النائب العام.
وفي كل الأحوال، لم يتحدث أحد من هؤلاء الإعلاميين الجهابذة عن كيفية تخطيط
مرسي لعملية مثل هذه، وهو المسجون منذ أكثر من عامين، والمراقب دائما في كل حركة من حركاته وسكناته، ولا يسمح له برؤية أي شخص إلا تحت رقابة مشددة تسجل كل شيء، وإن مرسي إذا كان قد قام بذلك فعلا، فهو بالتأكيد شخص خارق، أو أن الأجهزة الأمنية التي تراقبه كانت "نائمة في العسل" أو حتى متواطئة معه، وهو ما يستدعي حسابا عسيرا لها.
الأغرب من هذا أن الإعلام يتحدث عن القضية بتناقض آخر كبير، فهو يؤكد أن ضابط الصاعقة السابق في الجيش المصري "هشام عشماوي" هو العقل المدبر لعملية اغتيال النائب العام، وهو الضابط الذي ينتمي إلى تنظيم "ولاية سيناء" التابع لتنظيم الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يتهم مرسي بإشارة الذبح باعتباره مسؤولا عن العملية أيضا.
شيفرة أخرى مرتبطة بعملية سيناء الأخيرة، اجتهد الإعلام المصري ومؤيدون للسيسي في فك ألغازها والتوصل إلى معنى لها، وهي "نقطة" كتبها اللاعب محمد أبو تريكة على صفحته على موقع "فيس بوك" على سبيل المزاح، لكنها تحولت عند هؤلاء إلى إشارة البدء للهجوم على كمائن الجيش المصري.
هذا التعامل مع الإشارات والشيفرات يذكر بما قام به مذيع آخر مؤيد للانقلاب، هو "خيري رمضان"، عندما أكد أن العمامة التي ارتداها الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل في إحدى جلسات محاكمته كانت إشارة لتنفيذ عملية تفجير مديرية أمن القاهرة في يناير 2014، والدليل على ذلك بحسب المذيع أن العمامة تشبه تلك التي يرتديها أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة!
لكن تكرار الحديث عن هذه الخرافات، والتأكيد عليها من كافة وسائل الإعلام التابعة للنظام، يمكن أن يجعل مواطنين عاديين يصدقونها ويتعاملوا معها باعتبارها حقيقة، هذا عن انتقال علم الشيفرات والتنجيم والخرافات إلى الإعلام، أما عن تأثر السياسيين بهذا الكلام الفارغ، فقد طال أكبر رأس في الدولة "السيسي" عندما أكد لأسرة النائب العام أن أوامر القتل تأتي من داخل "القفص" متهما مرسي بذلك اعتمادا على موضوع "إشارة الذبح". بل وتحركت النيابة العامة لاستجواب مرسي بشأن الإشارة.
السيسي أيضا اتضح أنه مصدر الحديث عن مؤامرات حروب الجيل الرابع وغيرها من أحاديث المؤامرة، فقد تصور البعض أن طوفان الخبراء الاستراتيجيين الذين يتحدثون عن هذه الخزعبلات ما هم إلا مجرد شخصيات كاريكاتورية مكلفة بتغييب عقول الشعب بهذا الهراء، ووجدنا أحدهم يتحدث عن حروب "الجيل الخامس والتفكيك الساخن للدولة" حتى وجدنا السيسي يتحدث عن الموضوع نفسه، واكتشفنا أن هذه الخرافات تسكن عقل مسؤولي الدولة، وأنهم يؤمنون بها فعلا وليس هزلا أو على سبيل خداع الشعب فقط.
في هذه الأوضاع المأساوية التي تقود فيها أمثال هذه العقليات الرأي العام المصري في السياسة والإعلام، يتضح أن "أحمد سبايدر" كان سباقا لهؤلاء بسنين ضوئية، وأنه من السابقين الأولين في هذا المجال.