اعترض نقاد كثر على
مسلسلات البيئة الشامية التلفزيونية من نواحي تنافر أحداثها مع الوقائع التاريخية، ووقوعها في النمطية في تصوير سلوك أبناء الشام المقتصر على بعض المواقف الرجولية والعنترية، وخضوع النساء التام لأوامر الذكور ونواهيهم.
وقدّم مؤرخون وباحثون سوريون ما ينقض تماما ما تعرضه تلك المسلسلات في مقالات تتحدث عن التطور الاجتماعي في دمشق ومحيطها، حيث كانت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية مختلفة أشد الاختلاف عما تصوره المسلسلات عن حارات مغلقة وعادات منقرضة وأنماط تفكير متخلفة.
تركزت الانتقادات على مسلسل «باب الحارة» الذي يعرض في رمضان الحالي موسمه السابع، ذلك أن الأخطاء فيه بلغت حد الفضيحة والمهزلة. المفروض أن المسلسل يغطي أحداث ثورة الغوطة التي امتدت من منتصف عشرينات القرن الماضي إلى أوائل ثلاثيناته، فإذا به «يبقى ويتمدد»، فيعود أموات وتكبر أجيال، وتدخل «المكونات الوطنية» في فترة زمنية يفترض أنها لا تتجاوز العقد الواحد من الزمن في أفضل الأحوال.
هذا ناهيك عن التجاهل التام لكل البيئة الشامية الواقعية التي كانت قائمة في تلك الفترة، حيث ظهرت الجامعات وخريجوها مؤثرين في الحياة العامة، وغيرت وسائل النقل الحديثة من طبيعة الاقتصاد والعلاقات بين المراكز المدنية والأرياف، وبرز خطاب وطني -إذا صح التعبير- عند السياسيين السوريين لا علاقة له بالنخوة والقسم بالشوارب والضرب على الصدر... لا شيء من ذلك في هذا المسلسل وما يشبهه.
لا يعنينا هنا نقد مسلسلات البيئة الشامية فنيا، بل ملاحظة أن الأكثرية العظمى منها تحيل إلى زمن جمد فجأة وراح يعيد نفسه. قيمه وأخلاقه وعلاقات الناس فيه تبقى على حالها ولا تتغير. شخصياته تعبر عن أفكار ثابتة وليس عن أفراد لهم حيواتهم الخاصة. العدو فيه واضح والصديق بديهي والمخادع معروف منذ ظهوره الأول.
يحيل جمود الزمن هذا إلى «سورية الأسد» وركودها، حيث يظل الخير خيرا تُعرفه وتحدد صفاته السلطة الأبوية التي لا يمكن التشكيك في مصدر تسلطها ولا في سببه، والشر شرّا يمثله رقيب أبله يعمل في خدمة «الشر المطلق»، الأجنبي، في مخفر تافه.
لكن، وعلى غرار كل ركود، يغيب عن بال القائمين على هذا العمل والأعمال التي اتخذته نبراسا ودليلا أن الركود لا يحيط سوى بالسطح، وأن التفاعلات العميقة تظل نشيطة وإن لم يلاحظها كليل البصيرة والبصر. يذكر ذلك بـ «زمن الركود» الذي عاشه الاتحاد السوفياتي في عهد زعيمه ليونيد بريجنيف ومهّد لمرحلة البريسترويكا ثم للانهيار الشامل لمنظومة سياسية وأيديولوجية وعسكرية بدت للحظة أنها لا تُقهر، في حين كانت عوامل الضعف والتفكك قد نخرت الأسس التي تقف عليها.
الأمر ذاته في سورية، ففيما كانت تقدم هذه المسلسلات زمنا راكدا تؤكد كل أحداثه منعة «أهل الحارة» وقيمهم وعصيانهم على كل غريب، اندلعت الثورة السورية التي فككت كل عناصر السيطرة والسطوة لسلطة عاتية دموية على نحو لم يعد معه معروفا كيف ستتم في المستقبل إعادة تركيب الدولة السورية.
ذلك الزمن الراكد في «البيئة الشامية» الذي لا يُعرف متى بدأ ومتى سينتهي، ليس في واقع الأمر غير أمنية سلطة لا مشروع لها إلا بقاؤها وخلودها على رقاب أبناء الحارة الطيبين الذين انسلخوا من العصر وغاصوا في شجارات مملة منتظرين ما تطبخه لهم نساء يزداد مع الوقت تورم خدودهن جراء عمليات وحقن تجميل رخيصة.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)