منذ أن ذهبت سَكرة الحالمين بثورة وردية تنهي أكثر من مئة عام من الضعف والتحلل والهزيمة المقيمة والذل والتبعية والهوان والاستبداد وانغلاق بوابات الأمل والعيش على هامش جبابرة الأرض أذلاء تابعين، وجاءت فكرة الثمن الباهظ الذي لا بد من دفعه للخروج من ذلك كله، كبدهية تاريخية، وضرورة ثابتة في التحولات التاريخية الكبرى، حتى طفا إلى سطح المشهد يأس متجدد، وقنوط نادم، يرجو لو أن
العرب بقوا في سباتهم يعمهون، ولم يفكروا أبدا بالخروج من ذلك الركود القاتل الذي لفظهم خارج صنع التاريخ وجعلهم مفعولا به أبديا.
منذ تلك اللحظة التي أفاق فيها الحالمون على دفق هائل من الفوضى والدمار والتفكك، ودفق مقابل من الرثاء على ما وصل إليه حال العرب، ومقارنات ممجوجة بين مدن العرب المدمرة ومدن العدو الصهيوني الآمنة، وفي ذلك مستويات تتجلى فيها تباينات الموقف من الثورات العربية بسيرورتها الراهنة، بيد أنه وبصرف النظر عن تلك التفاوتات فإن حالة من اليأس تخيم في سماء الكثيرين ممن تشجعوا لهذه الثورات في بداياتها، واعتقدوا أن العودة إلى مسرح التاريخ ستكون هينة وسهلة بلا أثمان ولا أكلاف، وكأن الركام الذي جثم على صدر هذه الأمة، منذ مئة عام أو يزيد، يمكن دفعه عن صدرها دون أن يترتب على ذلك دمار كبير، وحيرة عظيمة. إن المشكلة هنا في التوقعات الخاطئة، والتصورات الحالمة، لا في الحقائق التي انبجست عن تلك الثورات.
لم تكن كل الجهود التي تمثلت في مقترحات وفاعلين خلال العقود الماضية كافية لحل معضلات الأمة المتراكمة والثقيلة، ومن يتجاوز هذه الحقيقة زاعما امتلاكه الحل الأكيد والبدائل النهائية ليس أكثر من ذاهل عن بدهية أساسية مفادها أن أمة عانت من كل هذا التمزق والفشل والضعف والتبعية خلال العقود الماضية، وعانت قطيعة تاريخية مؤلمة حرمتها من تطوير تجربتها الخاصة وابتكار نموذجها الخاص، لا يمكن أن يتأتى حلها بمقترح واحد، كما لا يمكن لحلها إلا أن يكون طويلا ومؤلما.
وفي ساعة الحقيقة، وحينما تبدأ هذه الأمة في الانفجار، ويأخذ انفجارها مداه من الفوضى والعنف، فإن الجميع سيكتشف أنه أكثر ضعفا وأقل إحاطة من أن يملك وحده، أو أن تملك أفكاره وحدها، حلا لمعضلات الأمة، غير أنه سيكتشف أنه كان أكثر جهلا بالأمة ومشكلاتها وتعقيداتها ومستوى التركيب والعمق فيها من أن يتمكن أساسا من تقديم البدائل الجاهزة، ويكفي دليلا على ذلك ما انكشف مما كان مخبوءا عن الجميع، من أوضاع الدولة العربية وأجهزتها وأوضاع التيارات والشخصيات الفاعلة في الأمة، ودل ظهوره على حجم الجهل والسذاجة لدى الجميع بلا استثناء.
إن الانفجار الذي حصل عقب الثورات العربية، ولا سيما مع أخذ
الثورة المضادة زمام المبادرة، يتناسب تماما مع حجم المعضلة والمدى الزمني الذي أخذته من عمر هذه الأمة، بما في ذلك تلك الظواهر المحيرة كـ "داعش"، والصراع السني الشيعي، وتفكك الدول العربية، واتساع الظاهرة الميليشياوية، وتوحش الثورة المضادة، ومن ثم وتماما، وكما أن كل ادعاء بامتلاك حل وحيد ونهائي لهذه الأمة خلال العقود التي مضت كان باطلا، فإن كل ادعاء بامتلاك حل وحيد ونهائي لهذه الفوضى الراهنة هو ادعاء باطل وضرب من الغرور أيضا، إلا أن الفرق بين ما قبل الثورات العربية وما بعدها، هو أن تلك العقود ورغم كم الجهود التي حاولت إزاء معضلتها غلب عليها الجمود وانسداد الأفق، وميلان الكفة لصالح الحالة الطغيانية والذي تمثل بتقديم التنازلات المستمر من طرف دعاة الإصلاح والاعتراف بهذا النموذج الطغياني ومحاولة المواءمة مع واقعه وكأنه حقيقة أبدية لا مناص من التسليم بها ومحاولة تحسين شروطها.
بينما تعيش الأمة الآن حالة غير مسبوقة من التدافع، والسيولة والحركة المستمرة المفتوحة على احتمالات متعددة، منها أن الجدلية التاريخية الراهنة تخلق حلها عبر عملية طويلة نسبيا ومكثفة جدا، وهذا الفارق جوهري للغاية ما بين الجمود والحركة، والانسداد والسيلان، ولا يقل عن ذلك جوهرية انكشاف فشل نموذج الدولة المعروف منذ الحقبة الاستعمارية، وانهيار هذا النموذج، واحتدام المواجهة بتحد معلن وسافر ما بين قوى التغيير والإصلاح وبقية قوى الطغيان في العالم العربي، وإن لم يكن للأمر أن يخلو من وجود نماذج للوهم واجترار الأخطاء، وهذه واحدة من سنن التاريخ الثابتة.