الأحداث الأخيرة التي عرفتها مناطق ساخنة كثيرة في
تونس وردّة فعل السلطات الرسمية العنيف يؤكد أن "دولة القمع والإرهاب" لم تسقط بعد.
فسواء تعلق الأمر باحتجاجات "الفوّار" و"دوز" و"سوق الأحد" من ولاية "قبلي" أو احتجاجات الأحرار في "ذهيبة " على الحدود الليبية -أقصى جنوب شرق- وسقوط الشهيد "صابر المليان" على يد القناصة الجدد أو خلال الاحتجاجات السلمية الأخيرة في شارع الثورة، فإنها كلها تؤكد على مبدأ واحد. هذا المبدأ هو عُلوية مبدأ القمع -صدّا لمبدأ علوية القانون في النظام الديمقراطي- باعتباره المحدّد الحقيقي لروح النظام الاستبدادي وجوهره، وبما هو القاعدة الوحيدة التي يمكن أن تتأسس عليها أنظمة النهب الشمولية، فتسود حينا من الدهر قبل أن تعصف بها منعرجات التاريخ التي لا ترحم.
"شارع الثورة" شهد بالأمس القريب لحظة سحرية في تاريخ تونس المعاصر متمثلة في فرار أول الطغاة العرب أمام زحف الجماهير الهادر، لكنه شهد البارحة أبشع مشاهد القمع -ما بعد الثورة- من خطف للمدونين وضرب متوحش للمتظاهرين السلميين -من النساء خاصة- وهم يفرون تحت مطاردات بوليس "بن علي" نفسه.
منطقة الجريد الساخنة تتحرك اليوم بعد عقود من الصمت مطالبة بالعدالة الاجتماعية، وبأدنى المرافق الضرورية من صحة وتعليم وطرقات وتنمية في حدها الأدنى في الوقت الذي تزخر فيه أرضها بكل الثروات الباطنية التي تُنهب أمام أعين سكانها.
"إعلام العار العمومي" أي ما تملكه دولة العمق بجهازها التنفيذي -الذي رفضت نُخب بن علي المعارِضة تفكيكه بعد هروبه- شنّ على المتظاهرين حملة استنكار ولامبالاة ذكّرت سريعا بمواقفه أياما قبل هروب الرئيس، حيث كانت القناة "الوطنية" التونسية تبث برنامجا عن "موانع حمل أنثى الثعلب في المناخات الاستوائية"، في الوقت الذي كان فيه العشرات من خيرة شباب تونس يسقطون برصاص قناصة النظام الإرهابي.
أما "إعلام العار الخاص" أو "إعلام البوليس" كما يسميه الشباب التونسي على المواقع الافتراضية فقد أثخن طعنا في جسد المتظاهرين، واصفا إياهم بأقذع النعوت والأوصاف من "الأوباش" إلى "المخربين" و"الإرهابيين" إلى "الحيوانات"، على حد تعبير أحد راقصات نظام الرئيس الهارب.
شراسة إعلام العار الخاص على منصات الدعاية البوليسية تحتدّ وتخفت حسب منسوب المال الذي تضخه في رصيدها "لوبيات" الفساد وعصابات النهب المنظم لثروات الوطن وموارد أبنائه.
المخيف المرعب في شيطنة المطالب السلمية المشروعة وفي قمعها -في إجراء خارق للدستور- هو ما يمكن أن ينزلق إليه وجهها السلمي من مزالق العنف والتطرف، وهو أمر لا تدركه منصات الإعلام الانقلابي، لأنه يقع خارج مداراتها، لكن تدركه جيدا مراكزُ البحوث الساهرة أطلسيا على إجهاض ربيع العرب.
الدفع بالجماهير نحو خيارات العنف والتطرف أمر لا تكاد تخطئه العين الموضوعية -والمتآمرة على السواء- خاصة بعد أن قدمت الأمة للعالم كلِّه دروسا في سلمية مطالبها بسقوط الاستبداد وواجهت بصدور عارية وأجساد هزيلة دباباتِ العسكر، وفيالقَ الموت الجوالة وخيانةَ "نخب العار" العربية.
هذا الدرس الإنساني العظيم "درس السلمية العربية" أقضّ مضاجع من عمل دهرا وأنفق أموالا كثيرة من أجل حصر صورة العربي في العنف والدمار والخراب والتقتيل وقطع الرؤوس. أجهزة الطغاة العرب وأدوات الموت والتظليل -التي لم يتقنوا غيرها ورثة تبّعا أوفياء للاستعمار وشركاته- نجحت سريعا عبر سفاحيْ
مصر والشام خاصة في طيّ الصورة الأصلية وتعليق صورة منابر الإعلام الإمبراطورية وأفلام هوليود الصهيونية التي لا ترى في العربي المسلم غير مجرم سفاح وجلف غليظ من أجلاف الصحراء.
اليوم تنقشع سحب المشهد العربي عن أشرس الأنظمة الدموية في التاريخ الحديث حيث الدفعُ دفعا بالجماهير وشبابها نحو محارق الموت بأنواعها رميا بالبراميل الإيرانية أو حرقا في الشوارع المصرية أو سحلا في الأزقة التونسية.
الجريمة مضاعفة، لأن الأخطر ليس ما ذكرنا فجرائم "حماه" سابقة لجرائم "درعا وحلب" وجرائم "بن علي" سابقة لجرائم من خلفه، وكذا كل مذابح الطغاة العرب، لكن الأخطر هو الإرهاب الإعلامي الأعمى وقصفه اليومي لعقل المواطن العربي الباطن بالأباطيل والأراجيف والإشهار للشواذ وتحليل الخمر والطعن في المقدسات ونحر اللغة العربية نحرا.
هذا القصف هو ما يرسم للوعي الجديد الناشئ حدودا هي غير حدود الوعي القديم وهو وعي يدرك اليوم أن شرط الحرية هو رأس شروط الوجود، وأن القمع ليس غير معول من المعاول التي تحفر كل يوم شيئا قليلا من قبور الطغاة ومن أنظمتهم وثقافتهم وأبواقهم.