إن الموقع الاستراتيجي المتميز لمنطقة
الشرق الأوسط من حيث طرق الملاحة البحرية والممرات الجوية والموارد الطبيعية والموارد البشرية الشابة والأماكن الدينية، وكونها ضمن الحزام المحيط الذي يحيط بروسيا، جعلها محطة أنظار القوى العظمى على مدى التاريخ. وإذا لم تتعاون الدول المعنية في المنطقة مع بعضها وتتناغم في أدائها الاستراتيجي فإنها ستكون الكعكة التي سيتم تقاسمها من قبل العمليات الجيوستراتيجية للقوى العظمى خصوصا الولايات المتحدة. وبالتالي ستكون أدوات لحماية وتنفيذ استراتيجيات الدول العظمى بدلا من حماية وتنفيذ استراتيجياتها الخاصة بها. ليس هذا فحسب، بل سينقسم هؤلاء ويتنازعون فيما بينهم على شكل مواجهات جيوستراتيجية سلبية تعكس مصالح الآخرين وتعكس التناقضات الجيوسياسية الداخلية بينهم.
بعد عام 1953 اختار الشاه محمد رضا أن تكون لديه علاقات مقربة جدا مع واشنطن ولندن وحول السياسة الخارجية
الإيرانية بشكل مفاجئ (دراماتيكي) في هذا الاتجاه حيث أصبح ثاني أهم حليف للولايات المتحدة في المنطقة بعد إسرائيل. انضمت إيران إلى حلف بغداد عام 1955 مع العراق وتركيا وباكستان والمملكة المتحدة وحافظت إيران على استمرار وتقوية هذا الحلف حتى بعد انسحاب العراق منه واسمته حلف (CENTO). وبدأت إيران تنحى باتجاه التوسع في المنطقة في سياستها الخارجية فرفضت السيادة البحرينية على جزيرة البحرين وادعت بأن الجزيرة تتبع لإيران. واعتبر الشاه أيضاً بأن إيران حامية الشيعة وصوتهم في العالم، وأرسل بقوات إلى عُمان واليمن للتدخل في الصراع المدني الداخلي في كلا البلدين. وفي نفس الوقت تساهلت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأفعال وتقبلتها واعتبرت ايران بمثابة الشرطي الذي ينوب عنها في الشرق الأوسط. لم يكن للدول العربية أي خيار سوى أن تشعر بالقلق من إيران وتصنفها على أنها أقرب لأن تكون عدوا أكثر من كونها بلداً يسعى لعلاقة ودية.
وبعد خلع الشاه ومجيئ الجمهورية الإسلامية انتقلت عدوى التوسع إلى الكيان الجديد بذريعة تصدير الثورة مما ابقى على علاقة متوترة بين ايران ودول الشرق الأوسط في المنطقة. لم تكتفي ايران بذلك بل كان لها تدخلا مباشرا في لبنان من خلال دعم حزب الله بذريعة المقاومة، وتدخلا مباشرا وميدانيا في دعم نظام بشار الأسد، ثم كان لها تدخلا مباشرا في دعم الحوثيين في اليمن مما عقد الأمور وزادت عتبة العداوة مع ايران بشكل بلغ الذروة أو كاد. وهذا بالطبع يفتح الأبواب واسعة أمام التدخل الأجنبي من جميع المداخل المذكورة سابقا خصوصا أن الشرق الأوسط مصنف من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على انه تربة خصبة لتوليد المشاكل. وبالتالي فإن على دول الشرق الأوسط أن تطور وتتبنى ضرورة وأهمية العمل المشترك فيما بينها بدلاً من تأجيج النزاعات وإثارة العداوات فيما بينها. وهذا يستدعي ضرورة تطوير مفهوم الإحساس بالخطر الجماعي من أجل تطوير ثقافة جيوستراتيجية مشتركة وفهما مشتركا بين دول المنطقة.
إن الوصول إلى اتفاق على جيوستراتيجية مشتركة ومتفق عليها أصبح ضرورة ملحة وحيوية ليس من أجل تأمين وحماية مصالح المنطقة ككل بل لتأمين وحماية مصالح كل بلد على حدة. أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت أمام ثلاث خيارات: إما الاقتتال الداخلي على أن تنتصر احدى الدول على الباقي وهذا مستحيل من منطق التاريخ والواقع، وإما تنمية الإحساس بالخطر وتطوير ثقافة حيواستراتيجية مشتركة تنتج مفاهيما واتفاقا مشتركا حول الجيوستراتيجية تضمن مصالح الجميع، وأما الاستمرار في النزاعات والمناوشات وبالتالي ستبقى المنطقة تتأرجح في نزاعات حقيقية تنتهي بتسليم المنطقة بالكامل وخضوع مصيرها لمصالح القوى العظمى. أن تطوير ثقافة جيوستراتيجية مشتركة ينبغي أن يكون على مستويين. أولاً على المستوى المحلي ضمن كل حدود دولة لتقليل الخلافات والمشاكل الجيوسياسية الداخلية. ثانياً على المستوى الإقليمي (دول المنطقة) بتطوير مفهوم جيوستراتيجي إقليمي مشترك قائم على فوائد ومصالح استراتيجية مشتركة. وإذا ما فشلت دول المنطقة في القيام بذلك فستجد نفسها تدور في فلك المصالح الجيوستراتيجية لقوى أخرى، ليس هذا فحسب بل إنها ستنفذ استراتيجيات الأخرين على حسابها وستدفع دول المنطقة كل الأكلاف المترتبة على ذلك.
تهدئة التوتر والمخاوف الجيوستراتيجية الإقليمية
من وجهة نظر تاريخية، بنيت الحضارة الإسلامية على أربعة أركان عرقية رئيسية (بالإضافة إلى عرقيات أخرى): العرب، والترك، والفرس، والأكراد ولعبت هذه الأمم دوراً مركزياً في تاريخ الحضارة الإسلامية خلال التاريخ الحديث. وبصرف النظر عن الأحداث التاريخية في الفترة الأخيرة وتفسيرها، فقد قامت كل مجموعة بوضع نفسها في موضع جيوستراتيجي مختلف عن الآخرين ولكن للأسف كانت النتيجة أن كلا منهم تموضع في مكان يثير الشك بالنسبة للآخرين.
بعد الثورة الإسلامية في عام 1979 حاولت إيران أن تصدّر الثورة الإسلامية إلى بلدان إسلامية أخرى.
هذه الخطوة دمرت بشكل دراماتيكي العلاقات بين العرب وإيران، كما أنها فتحت المجال أمام التدخل الخارجي من خلال "مدخل الحماية" حيث سعت دول الخليج نحو طلب حماية الولايات المتحدة في مواجهة هذه الخطوة ودفعت بنفسها قدماً تجاه تعزيز تحالفها مع واشنطن. ومرة أخرى كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المستفيد الأكبر من هذه الخطوة الإيرانية، وأصبحت إيران أشد عزلة. في التجربة السابقة مع الشاه بعد عام 1953 جمعت الولايات المتحدة منافع عديدة من النزعة التوسعية للشاه في الإقليم من خلال دعمه باعتباره شرطيها الذي ينوب عنها في المنطقة وللحفاظ على استمرارية مصالح الولايات المتحدة كما هو مخطط لها. بعد الثورة الإسلامية أصيبت ايران بعدوى حمى التوسع نفسها التي سبق وأن أصابت الشاه، عادت حمى التوسع لإيران تحت مسمى "حماية المصالح الاستراتيجية الإيرانية". وتبنت مفهوم تصدير الثورة مما سبب في استمرار العرب بالحذر أكثر من إيران وأدركوا أن لها نوايا توسعية واستئثارا بمصالح المنطقة. إلا أن صانعو القرار السياسي الإيراني أدركوا بعد الخميني حقيقة ذلك وخصوصا العزلة التي فرضت عليها وبأن سياسات إيران المتطرفة كانت مؤذية ليس لدول الإقليم فحسب بل لإيران نفسها. وبناءً على ذلك فقد طوروا سياسة خارجية معتدلة اتجاه الدول الإقليمية القريبة من أجل كسب دعمهم لكسر حالة العزلة الدولية التي كانت فيها ومازالت.
إلا أن ذلك لم يدم طويلا حيث اندفعت ايران باتجاه بناء المفاعلات النووية، وباتجاه بناء قوة عسكرية للتدخل في المناطق الخارجية تحت اسم قوات القدس، كما أنها بدأت تثبت نفسها في السياسة الداخلية للبنان من خلال حزب الله وتتدخل في صياغة التركيبة السياسية اللبنانية. ومن جديد أيضاً بدأت المخاوف العربية بالازدياد بسرعة كبيرة خلال فترة الربيع العربي إذ أن إيران تدخلت بعمق وبقوة في سوريا من خلال دعمها النظام السوري بالمال والرجال والموقف السياسي بحجة الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. كذلك تدخلها في اليمن من خلال دعمها للحوثيين في شمال اليمن وما نتج عنه من هيمنة حوثية على اليمن بالتعاون مع الرئيس السابق على عبدالله صالح وتجاوزهم المدى مما دفع دول المنطقة للتحالف في عاصفة الحزم ضدهم. ومن الجدير بالملاحظة أن الحكام السوريين هم من أصول علوية، والحوثيين في اليمن من أصول شيعية، وفي نفس الوقت فإن الحكام الإيرانيين من الشيعة أيضاً هذا التشابه الطائفي بين إيران والمستفيدين من دعمها وضع إيران في زاوية الطائفية وحصرها في هذه الزاوية المقيتة التي لا تساعد في تطوير حلول واقعية بل على العكس تنشئ مداخل صراع طائفية تزيد الأمور تعقيدا.
وفي المقابل فإن اندفاع بعض دول المنطقة وخصوصا دول الخليج باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية وتقديم التسهيلات الاستراتيجية لها يثير المخاوف الإيرانية وبالتالي تنظر ايران إلى هذا التموضع الخليجي من منظار الريبة والشك بالرغم من أنها قد تكون سببا من أسباب هذا التموضع. ومن جهة أخرى وفي عام 1990 عمقت تركيا علاقتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل مما وضع تركيا على الطرف الآخر من وجهة نظر بعض الأطراف الشرق أوسطية، ولذلك فإن النجاح في تحويل الموقف الجيوستراتيجي التركي باتجاه المنطقة سيعتبر تحولا حيويا سيكون له آثاره الكبيرة على الجيوستراتيجية في المنطقة أيضاً.
تقييم المصالح والاحتياجات الجيوستراتيجية لدول المنطقة والقوى الكبرى
هناك مجموعة عوامل جعلت منطقة الشرق الأوسط تعاني من فراغ جيواستراتيجي كبير منها أن الدول العربية تحديدا دول تابعة في الفضاء الجيوستراتيجي، وبالتالي تنفذ مصالح القوى الكبرى أكثر من كونها تصنع أو تشارك في هيكلة استراتيجية المنطقة الخاصة بها. هذا الفراغ لم يجذب الدول العظمى الخارجية فقط بل جذب أيضاً الدول الناشئة في الإقليم مثل إيران وتركيا، وجذب قوى صاعدة أخرى مثل الصين وروسيا. أن الدول المعنية في المنطقة بحاجة لأن تجتمع معاً وأن يدركوا الحاجات الجيوستراتيجية لكل دولة منهم وبناء الثقافة الجيوستراتيجية المشتركة القائمة على التنسيق والتناغم لا على استغلال ضعف بعضهم البعض. أن إيران وتركيا قوتان ناشئتان إقليميتان لهما حاجات جيواستراتيجيبة محددة، ومن المفترض أن تدرك الدول العربية هذه الحاجات وأن يتم علاجها وفقاً لذلك على قاعدة التعاون والتناغم والتنسيق الجيوستراتيجي وليس على قاعدة الاستغلال الجيوستراتيجي. كل دولة في الشرق الأوسط لها دور لتلعبه على المستوى الجيوستراتيجي، لكن دولاً مثل تركيا وإيران ومصر والمملكة
السعودية لها أهمية أكبر باعتبارهم لاعبين إقليميين أساسيين.
أما بالنسبة للقوى الكبرى فإنه على الرغم من أن القوى الأوروبية قوى لا يستهان بها في المنطقة إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تبقى اللاعب الجيوستراتيجي الأساسي بلا منازع، فبعد نهاية الحرب الباردة استمرت الولايات المتحدة بالسيطرة على القضايا الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط ولقد تعززت هذه السيطرة بشكل واسع بعد أحداث 11 أيلول. والولايات المتحدة كأي قوة عظمى تبدي اهتماماً كبيرا بمناطق نفوذها والتي منها منطقة الشرق الأوسط، وعلى الأخص الدول المحورية فيها وهي السعودية وتركيا ومصر وايران باعتبارهم لاعبين أساسيين في الصيغة الجيوستراتيجية للمنطقة.
وهي بالتالي تتدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة ليس في القضايا الجيوستراتيجية لهذه الدول فحسب وإنما في قضاياها الجيوسياسية الداخلية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. كما أن الولايات المتحدة تستطيع أن تكيف استراتيجيتها بناء على التغيرات الجيوسياسية في هذه الدول. ومما لاشك فيه، فإن الولايات المتحدة تسعى جاهدة لجعل قيمها القومية كمعايير كونية مثل الديمقراطية المتحررة، والسوق الحرة، وحقوق الإنسان آمله أن تشكل نظاما عالميا جديدا والذي سبق التبشير به في أيام جورج بوش باعتباره رسالة تبشيرية جديدة للحقبة الأمريكية.
أما بالنسبة لتركيا فإنه في فترة الحرب الباردة وما بعدها كانت تركيا جزءً من النظام الأمني الغربي. من أجل ذلك حاولت الولايات المتحدة والقوى الأساسية أن يكون لها تأثيرا في السياسة الخارجية التركية. وبما أن القرارات السياسية الخارجية في تركيا تتخذ من قبل اللاعبين المحليين الأتراك الذين عادة ما يتأثروا بالأوضاع المحلية فإن أفضل مقاربة أمريكية كانت للتأثير في السياسة التركية الخارجية هي من خلال التأثير في السياسة المحلية التركية. إضافة إلى أنه من وجهة نظر واشنطن فإن تركيا تقع بقرب الجوار الذي يولد الأخطار الكبيرة التي تواجه العالم الجديد مثل: الإرهاب الدولي، والإسلام السياسي، وتزايد أسلحة الدمار الشامل. أيضاً بما أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر الشرق الأوسط كأرض مولدة لهذه الأخطار المحتملة فإن تركيا ومن خلال المفهوم الأمريكي تعتبر شريكاً حيوياً في مكافحة هذه الأخطار.
في الحقيقة، أن تغيير الخريطة الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط يستلزم فهم الأوضاع الجيوستراتيجية بشكل شامل بغية تحديد حاجة القوى العظمى، كما يستلزم تحديد وتعريف قدرات دول المنطقة وحدود استطاعتها. وعلى الرغم مما يبدوا من صعوبة تعديل الاتجاهات الجيوستراتيجية في المنطقة إلا أن الأمر ليس مستحيلا، فهناك حد لقوة الولايات المتحدة ومقدرتها على السيطرة على التغيرات الجيواستراتيجية المستقبلية في الشرق الأوسط وفي باقي مناطق نفوذها. وبالتالي هناك فرصة معتبرة لإمكانية التغير في الصياغة الجيوستراتيجية في المنطقة خصوصا أن الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة لم يعد بتلك القوة المعهودة، كما تعاني أوربا من أوضاع اقتصادية سيئة حيث تقترب عدة دول أوروبية من حافة الإفلاس. على أية حال، فإن فهم الحاجات الجيوستراتيجية للقوى العظمى واللاعبين الآخرين أمر أساسي لفهم كيفية معالجة القضايا الجيوستراتيجية. وفي هذا السياق فمن الضرورة بمكان أن يتم التفكير من وجهة نظر الأطراف الأخرى في محاولة لتوقع كيف سترسم الولايات المتحدة والأوروبيون خارطة توزيع القوى الجديدة؟ وأي مناطق في العالم ذات أهمية استراتيجية لهم؟ وما هي المناطق المحتملة للصراع؟ وأين ستركز الولايات المتحدة وغيرها اهتمامها؟ كذلك فإن من ضروريات معالجة القضايا الجيوستراتيجية في المنطقة فهم المنهجية المتبعة في الولايات المتحدة فيما يتعلق بآلية اتخاذ القرارات بشأن مصلحة المناطق ومن هم المعنيين بهذا الأمر. صحيح أن الرئيس الأمريكي مسؤول عن السياسة الخارجية إلا أن هناك عدة لاعبين لديهم تأثير بطريقة أو بأخرى مثل: الكونغرس، ومستشار الأمن القومي، ومجلس الأمن القومي، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، بالإضافة إلى مزاج الجمهور، ووسائل الإعلام، ومجموعات المصالح.
لمطالعة الجزء الأول من المقال:
إضغط هنا