منذ أن ابتلى الله مصر بعصابات العسكر في انقلاب 1952، لم تتوقف آلتهم الإعلامية التي أشرفت على بنائها المخابرات الأمريكية، عن الكذب وتدليس الحقائق وتجهيل الشعب.
فالمقبور عبد الناصر أنتج عهده جيلاً يتعارك يومياً مع المنطق، ويعادي العقل، ولا يمكن لأي منصف ألا يرفع القبعة لإعلام العسكر، عبر ستة عقود على نجاحه في مهمته، فالإعلام نجح في خلق نماذج تضع نفسها يومياً في خصومة مع العقل.
ففي عهد الزعيم المقبور، تحول ( بواب ) الكيان الصهيوني الأول، وحامي حمى الدولة اليهودية المغتصبة، إلى الزعيم الملهم وصلاح الدين العصر، الذي سيتحرر بيت المقدس على يديه، وعاش الشعب في بالوعة من الأكاذيب تنفجر في وجهه كل فترة، لتخرج له صواريخ القاهر والظافر تارة، وبرنامج الفضاء الذي سينافس برامج إنجلترا وفرنسا وأمريكا تارة أخرى، واختفت عمالة المقبور تحت ستار دخان كثيف من التدليس، حتى الهزائم، نجح الإعلام في تحريف معناها وفي وأد الثورة التي كانت تتشكل وقتها، وتحويلها إلى مجرد ( نكسة ) وهو الاسم اللطيف الذي منحوه لهزيمة 67، لامتصاص غضب الشعب، وفي عهد الطبعة الثانية من حكام العسكر، مورست أفحش وأحط أنواع الخداع على الشعب، فتحولت هزيمة أكتوبر إلى نصر مجيد، وتحول عار وصول العدو إلى مسافة مئة كيلومتر من القاهرة، إلى تهديد أمن العدو، وامتلأ الفراغ الإعلامي بمعلقات شديدة التفاهة والركاكة حول ديان الذي يبكي زوال ( إسرائيل )، وحول المخابرات التي خدعت أمريكا والكيان الصهيوني ( على الرغم من علم الاثنين بموعد الحرب ) ... إلى آخر كل تلك ( الخيابات ) الصبيانية التي تتعارض مع أي حقائق منطقية، والتي كنا للأسف نصدقها ونهلل لها كالأطفال.
وضاعت تضحيات الشهداء الذين رفعوا سلاحهم في وجه العدو في لقاءات واتفاقات عقدت قبل الحرب من تحت الطاولة، وبنى العسكر سوراً طويلاً حول الجيش الذي أدمن الانسحاب حتى صدقنا أنه ( درع وسيف ) !!
ثم عشنا وهم الطلعة الجوية وغثاثة دعاية المخلوع ووهم الاستقرار، خلال 30 عاماً تم تدمير البقية الباقية من مصر خلالها، وبعد الثورة، عملت ماكينات إنتاج الفنكوش الإعلامي، بشكل عكسي، فالرئيس المنتخب سيبيع الأهرامات وسيؤجر قناة السويس ... إلخ.
وقد وجدت تلك الأكاذيب الكوميدية جمهوراً يصدقها، ولا عجب في ذلك، فمن صدق وهم أكتوبر والعدو على بعد 100 كيلومتر من القاهرة، كان لابد أن يصدق تلك الترهات.
وحتى بعد الانقلاب لم تتوقف ماكينات إنتاج الفنكوش الإعلامي عن إفراز فضلاتها التي وجدت هي الأخرى جمهوراً يصفق لها، من علاج الإيدز بالكفتة ووسامة شاويش الانقلاب وأسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، وفنكوش تحرير من سموهم بالرهائن الأثيوبيين.
بالأمس كانت الفضيحة الكبرى، ويبدو أن عصابة الانقلاب وصلت إلى مرحلة الجفاف التام، فبعد ألاعيب حاولوا بها إلهاء الرأي العام عن الكوارث والفشل والانهيارات الأرضية وغيرها، عبر حمار يسير في المطار أو سيدة ( تردح ) لشرطي، لم يجدوا سوى مهاجرين أثيوبيين غير شرعيين، احتجزتهم سلطات الهجرة في
ليبيا لإعادة ترحيلهم إلى بلادهم, ليستقبلهم شاويش الانقلاب في المطار، وليعلن أن جيش المعونة الأمريكية قام بتحريرهم.
في البداية كان ذلك المشهد الكوميدي الذي يظهر فيه أحد المهاجرين غير عابىء بشاويش الانقلاب، ولا يراه أصلاً في المطار ويتجاهل مصافحته، ثم ما لبثت فضيحة فبركة الواقعة كلها، أن انفجرت واكتشف الجميع حقيقة ( الفنكوش ) !.
وما حدث بالأمس يعني وصول عصابة الانقلاب إلى حضيض الإفلاس الفكري ونضوب قدرتهم على ابتكار الأكاذيب، ويعني أن دولة العسكر في طور الأفول، فلجوء أي نظام لأكاذيب مفضوحة من هذا النوع، مع قدرة الشعوب على فضحها، يعني أن هذا النظام يعيش مراحله الأخيرة، وأنه غير قادر على مواكبة عصره، وفي هذه الحالة يبدو النظام أشبه بالميكروب الذي تحاربه الكرات البيضاء في الجسد، وتحاول أن تلفظه، ويمكنني أن أقول بلا مبالغة إن الانقلاب ورعونته وخفة عقل شاويشه، فضح أكاذيب غطاها التراب ستة عقود، وإن دولة العسكر آخذة في الانهيار، وستسقط بإذن الله، إلا أن سقوطها مرهون باستمرار الحراك الثوري وزيادة الوعي.