لعبت المملكة العربية
السعودية بقيادة الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز دور الداعم الأكبر لتحرك الجيش
المصري لإنهاء حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي، ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين، واستمرّ هذا الدعم بعد 3 يوليو 2013 بشكله المالي والسياسي بهدف تثبيت أركان الحكم الجديد في مصر، واستمرّ صنبور المال السعودي–الخليجي في التدفّق بلا حسيب أو رقيب، وهو ما كشفت عنه تسريبات مكتب السيسي الأخيرة، التي أظهرت تلقي رأس السلطة الحالية في مصر مبلغاً فاق الـ 28 مليار دولار.
غير أنه، ومع رحيل الملك عبد الله وتولّي شقيقه سلمان بن عبد العزيز الحكم، برزت معلومات صحفية وإعلامية هنا وهناك، تتكهن بحصول تغيُّرات في السياسة الخارجية للمملكة تعيد فيها ترتيب الخارطة السياسية للمنطقة وتُغَيّر من التحالفات القائمة، تغَيُرٌ يطال التحالف العميق مع مصر تحديداً، ويُحرّك المملكة باتجاه
تركيا وقطر، ويُعيدُ النظرَ في العلاقة بجماعة الإخوان المسلمين.
ربما يكون لهذه التوقعات ما يبررها مع وجود مشاهدٍ دالّةٍ عليها، أبرزها رسائل إعلامية متبادلة من إعلاميين محسوبين على النظام المصري وكُتّاب مقربين من دائرة الحكم في المملكة تشي بأن هناك تغيرا ما في سياسة السعودية الخارجية تجاه مصر تحديداً، وتجاه الإقليم عموماً.
إلّا أن هذه التوقّعات والاستنتاجات تصطدم بحقائق سياسية وإقليمية وتاريخية راسخة، ومن الصعب التغاضي عنها أو تجاوزها، حقائق تتعلّق بالموقف المبدئي من الإخوان المسلمين، وبالتمدد
الإيراني في ساحات عدّة من المنطقة، كذلك بطبيعة العلاقة مع تركيا سياسياً وتاريخياً.
فالمملكة -في الحقيقة الأولى- ترى في جماعة الإخوان المسلمين المنافسَ الأقوى على قيادة العالم الإسلامي السنّي، وترى في مشروع الإخوان المسلمين تهديداً جدّياً لنظام الحكم القائم على بيعة وليّ الأمر. من هذين المنطلقين جاء دعم المملكة العربية السعودية لانقلاب الجيش المصري على حكم محمد مرسي والإخوان المسلمين.
النظام في المملكة السعودية لا يبدو أنه بصدد تغيير سياسته الاستراتيجية من الجماعة، ولن يكون هذا التغيير إلا في إطار تكتيكات موضعية تفرضها المعادلة الإقليمية المعقّدة، مثل التوقّع بأن يكون هناك تفاهم ما يفضي إلى دعم حزب التجمع اليمني للإصلاح في مواجهة التمدد الحوثي في اليمن، بعد أن وصلت المملكة إلى قناعة بأن إخوان اليمن هم الطرف الأوحد القادر على الوقوف في وجه المشروع "الإيراني" هناك.
وفي هذا السياق ذاته تُدرَج الأنباء والتكهّنات التي تتحدّث عن اتصالات مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، فالهدف من هذه الاتصالات -إن جرَت فعلاً- هو استقطاب الحركة بعيداً عن المحور الإيراني المتنامي في المنطقة. لذلك –وبالعودة إلى الموقف السعودي الأساسي من الإخوان- فالحفاظ على زخم العلاقة والتعاون والتنسيق مع النظام المصري الحالي والاستمرار في دعمه، يتيح للمملكة المحافظة على استراتيجيتها في تحجيم جماعة الإخوان المسلمين وإضعافهم، فالإخوان هم الطرف المستفيد فعليّاً من أي تداعٍ اقتصاديٍّ أو سياسيٍّ في مصر.
وبالانتقال إلى الحقيقة الثانية، فلا شكّ أن اللاعب الحالي الأقوى إقليمياً –وبعيداً عن "إسرائيل"- هي إيران التي تتمدد على مساحة الجغرافيا العربية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، هذا التمدد الذي سيرسم حدود النفوذ الإيراني مستقبلاً سيُتوَّج في الأيام القليلة المقبلة -على الأرجح- اتفاقاً نووياً مع الغرب، ستكون له تداعياته على المنطقة بشكل عام وعلى المملكة العربية السعودية بشكل خاص.
إيران ما فتئت تبعث بالرسائل الإيجابية إلى مصر، عبر دعمٍ إعلاميٍّ ناعم، إلى جانب رسائل تطمين حملها الوفد الحوثيّ إلى القاهرة، تحاول كسب مصر إلى جانبها، أو تحييدها وإخراجها من المعادلة على الأقل.
المملكة العربية السعودية وهي تراقب التحرّكات الإيرانية تجاه مصر، تدرك أن أي تخلٍّ عن النظام المصري أو حتى تراخٍ في دعمه في هذا التوقيت الحرِج، سيقذف بمصر إلى أحضان المشروع الإيراني، وهو ما لا ترغب فيه المملكة بالتأكيد.
أما الحقيقة الثالثة، وهي المتعلّقة بتركيا، فالعلاقات السعودية التركية تاريخيّاً لم تصل في أي مرحلة من المراحل إلى مستوى التحالف، ولا يبدو أنها ستصل إليه مستقبلاً لأسباب تتعلّق بالنفوذ والتاريخ وما يُقال عن مشروع عثماني جديد يحمله الرئيس رجب طيّب أردوغان، هذا بالإضافة إلى أن أنقرة تحتفظ بعلاقات جيدة بل وجيدة جداً مع طهران، خصوصاً على المستوى التجاري الذي سيشهد رفعاً لمستوى التبادل التجاري بين البلدين ليصل إلى 30 مليار دولار حسب تصريحات سابقة لأردوغان نفسه.
ما نشهده اليوم من زيادة في وتيرة الاتصالات بين المملكة وتركيا وزيارة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الأخيرة إلى السعودية، لم تخرُج عن إطار البحث في ملفّات مشتركة تهمُّ البلدين، وبالدرجة الأولى ملفّي سوريا وتنظيم الدولة الإسلامية الذي يُهددّ الحدود الشمالية للمملكة.
أما في الشأن المصري فالبَوْنُ كبير، والاختلافُ جوهريٌّ. الحديث عن تقارب سعودي تركي على حساب النظام المصري أمرٌ من الصعب استيعابه بالنظر إلى أهمية مصر الاستراتيجية للسعودية. ولأن تركيا ترفض الاعتراف بشرعية النظام المصري الحالي، فإنّ العلاقة بين السعودية وتركيا ستبقى محددة الأهداف والغايات، بعيداً عن أي مساس بالوضع الاستراتيجي المصري السعودي، ولن تصل هذه العلاقة أبداً إلى مستوى التحالف أو تشكيل جبهة سُنِّية لمواجهة التمدد الإيراني كما يُقال.
يبقى أن نؤكّد على حقيقة سياسية جَلِيَّة وهي أن المملكة العربية السعودية وبعد ثورة 25 يناير في مصر توَّجت نفسها زعيمة للعالم العربي بلا أي ندٍّ حقيقي. فالعلاقات العربية-العربية التي اتّسَمت بالندية والتكافؤ بين السعودية ومجموعة من الدول الكبرى كمصر والعراق وسوريا والجزائر والمغرب بدون تغلّبٍ سياسيٍّ لطرفٍ على آخر وجدت نفسها اليوم تُغَرٍّدُ وحيدةً داخل الجامعة العربية بعد انهيار العراق وسوريا، وانكفاء كل من الجزائر والمغرب على نفسيْهما، أما مصر، فقد نجحت السعودية في استغلال وضعها المُزري سياسياً واقتصادياً وحوّلتها إلى مجرّد تابعٍ متلقٍّ للمساعدات والمعونات بعد أن كانت نِدّاً سياسياً موازياً ومتمِّماً في سياق العلاقات العربية المشتركة.
بالنظر إلى كل هذه المعطيات والحقائق، فإنه من غير المحتمل أن ترفع المملكة العربية السعودية يدها -إن لم يَكُن وصايتها- عن مصر بعد كل هذه التكاليف المالية والسياسية. ومن المرجّح تعزيز هذه العلاقة وتطويرها وصولاً إلى تشكيل جبهة عربية تقودها المملكة في مواجهة المشاريع التي تغزو المنطقة؛ المشروع الإيراني، والمشروع التركي الذي يُطلُّ برأسه من بعيد، بالإضافة إلى إبقاء حالة الضغط على جماعة الإخوان المسلمين بهدف تطويعها إن لم يكن كسرها.
فهل اختارت المملكة التحالفات المُثلى في هذا الإطار؟ وهل ستؤدي استراتيجياتها الحالية استثناء جماعة الإخوان المسلمين من أي خطط استراتيجية -لمواجهة المدّ الإيراني تحديداً ومدّ تنظيم الدولة الإسلامية استتباعاً، بل ووضعها في خانة العدو، والتحالف الوثيق مع النظام المصري الحالي- إلى كبح جماح هذه المشاريع؟ هذا ما ستُجيب عنه الأيام القادمة التي ستكون حبلى بالأحداث الدراماتيكية.