أمامنا حقيقة لا يمكن التجادل حولها، وهي أننا كفلسطينيين، حظينا بإصغاء دولي، وبمواقف متتالية، مؤيّدة ومتعاطفة، بشأن حقوقنا ومصيرنا أيضاً، وهذه تعتبر إنجازاً دبلوماسياً مهماً في نظر
السلطة الفلسطينية، والذين يؤمنون بالسلام، وأولئك الذين وُصِفوا بأنهم أكثر بحثاً وأشد شوقاً من
الإسرائيليين أنفسهم إلى ذلك السلام، برغم عدم إمساكهم بشيءٍ مطلق، وسواء كان باتجاه السيطرة على أرض أو التحكّم بسيادة.
وأمامنا حقيقة أخرى، هي أيضاً غير قابلة للتجادل، وهي أن المواقف الدولية السابقة، لم تترتّب من الهواء أو مصادفةً، وإنما جاءت بناءً على جملة التنازلات الفلسطينية، سعياً منها لإثبات جدّيتها للسلام، الذي أُطلق عليه صراحةً اسم سلام الشجعان، حيث تنازلت
منظمة التحرير الفلسطينية لصالح الإسرائيليين، وخلال الساعات الأولى من توقيع اتفاق
أوسلو عن حقوق تاريخية، وذلك في نظر الجانب المناوئ للاتفاق على الأقل، باعتبارها تفريطاً مُتجاوزاً للحدود.
ربما نلتمس العذر والحق أيضاً للمنظمة أولاً وللسلطة الفلسطينية فيما بعد، في كل ساعة، باعتبارهما اضطُّرتا إلى هذا السلوك، وأن ليس كل خطوة قام بها الفلسطينيون، من خلالهما باتجاه السلام، هي مُقنعة لهم، أو هم راضون عنها، بسبب أنها هي المُتاحة، ولا توجد لديهم خيارات أخرى، تحمل قدرة ما، يمكن من خلالها تحصيل أكثر مما تم الحصول عليه.
فهُم يعلمون كحقيقة دامغة، بأن ما تم الوصول إليه بعد سنين طويلة، لا يُعتبر نجاحاً، ولا يُعد إنجازاً، بدليل أنهم لم يحتفلوا يوماً ما بتاريخٍ محدد، ولا بأوسلو نفسه، برغم تسجيله كإنجاز، وربما وصل بعضهم إلى تقديره بأنه مجرّد خدعة.
في المقابل، فإن من السهل علينا، قراءة أن الإسرائيليين لا يزالون ومنذ العام 1948، وسنةً بعد أخرى، يحتفلون بكرة وعشياً، باعتبارهم حققوا إنجازات مصيرية مهمّة، بدءاً بولادة الدولة، ومروراً بدوامها وتطورها، ونهاية بتراجع العرب عن عهدهم الأول في عدائهم للصهيونية ونكرانهم للدولة، بعدما نجحوا في إسقاط لاءاتهم الخرطومية الثلاث واحدة بعد الأخرى، وجعلوها في غياهب الأرض، وكأنهم فطِنوا من خلال دَفعٍ دولي متطابق، إلى حقيقة، بأن من غير الأصول حدوث استبعاد آخر لشعب يهودي ناضل من قلب الألم بفعل الأيادي الأوروبية الآثمة، وله الآن أن ينعم بالسلام.
وليس هذا وحسب، بل وتحولوا بموازاة ذلك وبالفضل الدولي ذاته، إلى جهة أخرى في شأن تغيير الأعداء، تمّت بسهولة ويسر، حين سُمّيت إيران بالعدو الأوحد، حيث نالت عداوة عربية أقوى مما كانت عليه إسرائيل، التي نشأت، إمّا على أساس ديني، كونها دولة شيعيّة تسبّ الخلفاء والصحابة، وتُسيء لأولياء الله الصالحين، أو على خلفية سياسية وأمنية، في إطار رغبتها في ترويض دول المنطقة، تحت وطأة برنامجها النووي.
يجدر بنا وبحسب روح المرحلة، التي تحمل تلك الإشارات الدولية الطيّبة، من حيث التفاتها للمتطلبات الفلسطينية، وانتقادها للممارسات الإسرائيلية، والخاصة بشأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي القائم، ألا نسترسل في مدحها أكثر من اللازم، وألا نخلد في الثناء عليها أكثر من المقبول، ليس لكون إشاراتها ناقصة وحسب، ولكن بسبب أنها مُواربة لا حاضر لها، ولا مستقبل يمكن أن يُعوّل عليها، وحتى في ضوء الضجة التي تقوم إسرائيل بإحداثها، سيما وأن هناك خطوات أوروبية مُقابلة تنسفها، أو تقلل من شأنها على الأقل، وكأنها تقوم بمكافأة إسرائيل وليس بمعاقبتها.
وسواء من حيث قيامها بتدشين اتفاقات جديدة معها أو بتمديد القائمة منها، أو بتأييد خطواتها، بزعم أنها باتجاه الفلسطينيين، وإن كانت تُعتبر في نطاق الخطوات الانفرادية، ولها تداعيات مستقبلية شديدة.
تحدثت الأنباء خلال الأيام الفائتة، عن توجّهات للّجنة الرباعية الدولية - وإن كانت بلكزة أمريكية- في شأن ابتداعها خطة (تهدئة) تهدف إلى استئناف العملية السياسية في أقرب فرصة، بغض النظر عن لقاءات سرّية تجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بين الفينة والأخرى، في ضوء نمو تكهناتها، بأن المنطقة تطل على كارثة محدقة، تتمثل بقرب حدوث
انتفاضة ثالثة في منطقة الضفة الغربية، بناءً على تطورات تصعيدية فلسطينية وإسرائيلية متبادلة.
وبما أنه لا يجدر بنا أن نصِل لأن نعصر أدمغتنا من أجل التكهّن بأن هناك إمكانية لحصول معجزةٍ ما، بسبب أن هذه الخطّة، لن تتعدّ قصّة العودة إلى الطاولة التفاوضيّة، والمحاولة في التقريب بين وجهات نظر الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وإن في شأن إدارة الصراع فقط، وصولاً إلى منع اشتعال النار مجدداً، لاسيما وأن الإسرائيليين باتوا يتوقعون انتفاضة ثالثة كحقيقة بائنة، بعد أن أمِنوا حصولها من قبل، وتحديداً عندما كان الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" يقف علانيةً في مواجهتها.