لا أعلم كم هو من الصحيح أو الخاطئ محاكمة التاريخ وأشخاصه ولكن أجزم أن المحاكمة دون استخلاص الدرس مضيعه للوقت.
في كل عام يثار النقاش والحوار في ذكرى رحيل
ياسر عرفات وهو تأكيد مستمر على خلو مكانه على الساحة السياسية
الفلسطينية بالإضافة لعمق تأثيره على مسيرة الشعب الفلسطيني.
ودائما ما تكون وجهات النظر بثلاث توجهات، إما التقديس العاطفي وإما التخوين المنحاز والسطحي وإما الدعوة إلى عدم إثارة النقاش بدعوى الحفاظ على مشاعر أتباعه وخوفا من الفتنة .
ولكن التعامل مع الشؤون والشخوص السياسية التاريخية تعامل عاطفي سطحي هو ما أفقدنا القدرة على مراكمة الخبرات المأخوذة من تجارب من سبقنا سواء بنجاحهم وفشلهم وعليه أرى أن الثلاث وجهات السابقة غير بناءة ولا بد من قراءة سيرة عرفات بتمعن لاستخلاص العبر.
قد يكون أهم ما في سيرة عرفات هو بداياته وانطلاقته وإصراره على العمل لقضيته ويمكن الاقتداء به في هذة المرحلة من حياته.
فهنا كان ياسر الشاب الذي لم يتجاوز العشرين عام يتطوع في الكتائب التي شكلتها جماعة الإخوان للقتال في حرب 48 وما إن انتهت الحرب حتى عاد للقاهرة ليحيي مع رفاقه اتحاد عام طلبة فلسطين الذي كان أسسه في القاهرة الشهيد القائد عبد القادر الحسيني عندما كان يدرس هناك.
وترأس عرفات الاتحاد واستمر في محاولاته أخذ مقعد لفلسطين ضمن الاتحاد العالمي للطلبة لينجح بذلك مع صلاح خلف أبو إياد بعد تخرجه.
وأيضا كان له دور من خلال رأسته للاتحاد أن يضغط على ثورة 53 ورئيس مصر محمد نجيب لتشكيل وحدة للطلبة الفلسطينيين داخل الجيش المصري والمفارقة أن مجموعة ممن تدربوا في هذه الوحدة أصبحوا قادة كتائب عسكرية في الثورة الفلسطينية بعد ذلك.
وبعد طرده من مصر وهجرته للكويت ظل شاغله ورفاقه، عمل على إنشاء حركة لتحرير فلسطين شبيه بجبهة التحرير الجزائرية وبعد سنوات قليلة قضاها في الكويت شكل خلالها النواة لحركة
فتح تخلى عن وظيفته كمهندس وعاد للأردن وسوريا ليشكل خلايا وقواعد حركة فتح ضمن اللاجئين.
وأيضا من الجوانب المميزة في عرفات هي تجاوزه للأيدولوجيا والأحلاف السياسية المتناحرة في العالم العربي إلى حد ما فكان مقرب من عبد الناصر والسعودية في نفس الوقت وكذلك مع كل الأحلاف العربية التي نشأت بعد ذلك وأيضا حين اندلعت الحرب العراقية الإيرانية كان السباق لمحاولة التواسط بين حلفائه الاثنان وفشل، بالإضافة لذلك استطاع الحفاظ إلى حد ما على وحدة الشعب الفلسطيني عبر منظمة التحرير خلال عشرين عاما ووحدة القرار ووحدة المصير وهو ما نفتقده اليوم على الإطلاق.
أما العقدة التي لازمت عرفات واتخذ كثير من قرارته المتهورة على إثرها هي عقدة نهاية حياة الحاج
أمين الحسيني.
فقد إلتقاه في القاهرة في آخر أيامه وشكل الحال الذي انتهى عليها زعيم فلسطين من إهمال على الساحة السياسية العربية وتلاشي لدورة عقدة لازمت عرفات فتحول مع الوقت وخصيصا بعد الخروج من بيروت لشخص يعمل من أجل أن يبقى في الواجهة وزعيما للشعب الفلسطيني فقتلته الزعامة التي حاول الحفاظ عليها والتي دفعته لوضع علم إسرائيل على صدره والتعارك مع باراك قاتل رفاقه في بيروت على من يدخل أولا البيت الأبيض بالإضافة لخضوعه الكبير للمجتمع الدولي وأمريكا وما نتج عن ذلك إلا معاهدة هزيلة لم تمنع حصاره وقتله في نهاية المطاف.
وهنا أشير أن الشعب الفلسطيني كان له دور كبير في إعطاء عرفات هذه الرمزية والزعامة بوعي أو بغير وعي ودعونا نتذكر أن القرارات في منظمة التحرير كانت تتمتع بشيء من الشرعية وهي من أبقته على قيادتها حتى رحيله.
وأيضا خلو الساحة لعرفات من رفاقه ومنافسيه الأساسيين ساعده على المضي في بحثه عن مجدة الشخصي.