مقاومة الجلاد من غزة إلى تونس

غزة أو قطعة الأرض الوحيدة المحرّرة حقا من كل البلاد العربية، غزة أو مهبط المقاومة ومولد الشهداء، غزة المحاصرة بالتواطؤ العربي قبل الاحتلال الصهيوني.

 من غزة هذه وصلتنا صور الدعم للثورة التونسية أو لما بقي منها في تحالف يتيم ونادر بين وجهين من وجوه التماس الوجداني يصلان ما تمزق من أواصر الأخوّة بفعل هزائم التاريخ وقابلية الموت.

 من غزة المحاصرة بفعل سايكس بيكو وطغيان الصهاينة العرب وصمت النخب العربية تصلنا صور أطفال وشباب يدعمون المقاومة في تونس ويساندون من ساندهم في آخر محنهم التي لا تنتهي، و ما كان لتونس أن تساند غزة في كل مكان ومن أعلى منبر الأمم المتحدة لولا مكسب الحرية العزيز وسيادة الشعب ودماء الشهداء قبل كل شيء.
 
المقاومة التونسية اليوم هي واحدة من أشرس أنواع المقاومة إن لم نقل أشرسها ضد عودة الاستبداد باعتباره الوكيل الأول للاحتلال والراعي القديم لمصالحه في المنطقة. تونس اليوم ومع عودة الجلاد الهارب إلى أرض ثورة 17 ديسمبر الخالدة تقف أمام مفترق عظيم في تاريخها الحديث وفي تاريخ الأمة كلها. تونس اليوم كغزة فلسطين، هنا صمود وهناك مقاومة هنا تطأ أقدام عملاء صهيون أرض افريقية للتهنئة بعودة وكلاء الاستعمار وهناك تطأ قدم صهيون نفسه أرض أولى القبلتين ومسرى رسول الله عليه أزكى السلام وأصدق الصلوات. 

تونس التي حررت الأمة من سياط الجلاد وعرّت أوهن البيوت ودكّت صرح الاستبداد تستعيد هذه الأيام زخم الثورة بعد أن كشفت الدولة العميقة عن قدرتها على إمكان وأد الثورة في مهدها وإلحاق المشهد التونسي بأخيه المصري  في شكل أكثر نعومة من مشاهد الحرق والذبح في رابعة وميدان النهضة. عودة الجلاد من الباب الكبير هذه المرة تتمثل في رجوع كل أركان الدولة البوليسية إلى تونس بمباركة حركة النهضة المحسوبة على التيار الاسلامي.

الأزلام أو الفلول كما يسميهم التونسيون رجال عصابات نهبوا واستولوا خلال ما يزيد عن نصف قرن على كل مقدرات البلاد، ومارسوا في حق أهلها أبشع أنواع التعذيب والتنكيل. الأزلام هم نخب الاستبداد السياسية بكل مدارسها الإيديولوجية ومرجعياتها الفكرية. الأزلام من النخب هم سدنة ديْر الاستبداد هم حراس المعبد ورعاة الصنم، هم من يقدم القرابين لروح الآلهة من الطغاة والعسكر، هم من يعبّد بدماء الشهداء والموقوفين في الزنازين والأقبية طريقَ الخلاص للحاكم الأوحد والزعيم المغوار للرئيس الأبدي والزعيم الخالد للمجاهد الأكبر ورجل التغيير للأخ القائد ملك الملوك رب العبيد وسيد البحار ما فوقها وما تحتها.

غزة التي حوصرت ألف مرة وقُصفت ألف مرة ومرة لم تسقط في يد الجلاد وكذلك تونس التي مازلت إلى هذه اللحظة تصارع عودة الجلاد الذي يكاد يكسر الباب عائدا من صناديق الاقتراع هذه المرة. 

غزة كانت حاضرة في خطاب "إعلام العار" عندما يستحضر خطاب الثورة المضادة المقاومة الفلسطينية لتشويه الثورة التونسية مثل حديث "أميرة إعلام العار" من الصحف التونسية المموّلة طائفيا من دمشق عن أنفاق حفرها " إرهابيون من حماس" -والتعبير للصحيفة-  في جبال الشمال الغربي التونسية من أجل تخزين الأسلحة. 

تونس تقاوم الآن مثلما لم تقاوم من قبل بل لعلها تخوض اليوم واحدة من أعظم المعارك في تاريخها الحديث وهي التي تسمّى في تونس اليوم "بمعركة الاستقلال الحقيقي". تونس تقف على أخطر مفترق طرق عرفته في تاريخها المعاصر حيث الطريق إلى الحرية أو النكوص إلى حظائر الطغاة ومراكض العبيد.

خط المقاومة الذي نعني يمتد اليوم من غزة إلى تونس يمتد كسرب حمام -كما قال الشيخ نزار- يحمل الأمل إلى الأمة بأن الفجر لا عدول عنه وأن الشمس ستشرق ولو كره الانقلابيون من لاعقي أحذية العسكر. 

هو ربيع رغم براميلكم ورغم داعشكم، هو ربيع الوعي العربي بالتغيير وبالقدرة على التغيير هو وعي بأن إرادة الحياة تصنع المعجزات أو تكاد كما قال شاعر الجريد أبو القاسم الشابي. 

غزة لن تحررها جيوش الانقلابيين العرب ممن تفننوا في قتل شعوبهم في الساحات والمساجد وفي قصفهم بالبراميل الطائفية. غزة لن تحررها أكداس الخردة المكدسة في مخازن الأسلحة العربية والمنتزعة من قوت الفقراء والعاطلين ومن دمائهم. غزة سيحررها الوعي الناسل من لحظات الحرية ومن ميلاد الشعوب الجديد الذي يبشر به ربيع العرب المنعتق من خطب النخب السياسية العقيم.  هذا الخطاب لم يخلّف بمرجعياته الإسلامية والقومية والشيوعية والليبرالية في هيكله النظري وفي تطبيقاته التاريخية غير الخراب والدمار في كل مزارع الموت العربية.

الثورة التونسية وربيع العرب فرصة تاريخية من أجل ثورة معرفية حقيقية تؤسس لإنسان عربي جديد يتجاوز وعيه القوالب المعطّلة ليجد سبيله نحو رؤية جديدة لنفسه ولمحيطه عمادها التفاعل والبناء لا التكلس والجمود.  

قولوا ما شئتم عن خريف ثوراتنا وشتائنا الإسلامي وتخلفنا وموتنا وحنيننا إلى العبودية، قولوا بأننا لا نقاد إلا بالسياط، ولكن لن تنتزعوا منا إرادة الحياة ولن تنالوا من وعينا بأن هذه الإرادة لا تقهر لأنها آخر أسلحتنا في وجه آلة القتل في وجه الاستبداد والاستعمار ومشتقاتها من فساد وفقر وتعصب وتخلف وطائفية وزرع للموت في كل مكان.