نتيجة ما حدث من تطورات وتغييرات على خريطة موازين القوى في كثير من البلاد العربية، برزت مجموعة من الموضوعات تشنّ الهجوم الفكري والنظري على الإسلام، وعلى من يسّمونه
الإسلام السياسي، وتحميلها المسؤولية الكاملة لما اندلع ويندلع من صراعات داخلية وصلت إلى ما يشبه الحروب الأهلية، أو الحروب الأهلية بالتمام والكمال. فبدت الأوضاع ذاهبة إلى ما لا تحمد عقباه من مخاطر التشظي والتجزئة وانهيار ما كان قائماً من دول ومجتمعات. وراحت الإجابات عن السؤال إلى أين؟ شديدة القتامة والتشاؤم الممزوجين بالمخاوف حتى الهلع المريع.
لا شك في أن ما يشبه الزلزال الذي يقلب ما ساد على السطح ليخرج ما تحته يمثل صورة الأوضاع الراهنة. ولكن تتالي الارتدادات جعلت تغيّر السطح واهتزاز الصورة مستمرين. الأمر الذي دفع البعض إلى القفز السريع فوق الوقائع القائمة – المتقلبة – المتحركة إلى إعطاء إجابات جاهزة عن كيفية المخرج والحل المطلوب.
قالوا: لا حل إلاّ باستبعاد الإسلام كمرجعية فكرية – سياسية – منهجية، وإنهاء ما يسمّى بالإسلام السياسي. ومن ثم العودة إلى الوطنية والقومية، والتأكيد على الانتماء الواحد لجميع مكوّنات المجتمع وهو الانتماء للوطنية القطرية، والأمة العربية الواحدة.
يفترض هذا الجواب أن المشكل في المرجعية الإسلامية السياسية، والبعض يذهب به إلى الإسلام من حيث أتى. وبهذا لا توجّه التهمة إلى قراءة بعينها للإسلام. ويفترض هذا الجواب أيضاً بأن الانتماء الوطني والقومي والتسليم بالمساواة المواطنية والدولة المدنية لا يفجر التناقضات السياسية والاجتماعية إلى حدّ الاقتتال والتشظي، أو الحرب الأهلية، أو يؤزم الصراعات في ما بين الدول العربية المنتمية إلى الأمة العربية تأزيماً يصل إلى القطيعة والتحارب.
هذا الافتراضان لا علاقة لهما بالتاريخ القديم والحديث لأمة العرب ولا علاقة لهما بالأسباب الحقيقية التي تصل بالخلافات والصراعات إلى حد الاقتتال والحروب أو ما يشبه الاقتتال والحروب.
فمن ناحية الفرضية التي تريد استبعاد المرجعية الإسلامية من حيث أتى في النظرة إلى الحياة والقيم الأخلاقية أو في السياسة والاجتماع. وتُقصيها عن أن تكون مكوّناً من المكوّنات إلى جانب العلمانية والوطنية والقومية والديمقراطية والليبرالية، تنكر التاريخ العربي الإسلامي لهذه البلاد، وترفض الاعتراف بأن الانتماءين الوطني والعروبي يتضمنان التعدّد ويغتنيان به، كما التاريخ العربي الإسلامي كان متعدّداً في وقت كان كل ما حوله أحادياً شمولياً. وهو الخطأ نفسه الذي تقع فيه بعض القراءات الإسلامية للإسلام وللتاريخ حين لا تلحظ ما حملاه من تعدّدية وأبعاد في المساواة يمكن التأسيس عليهما في ما هو مطلوب من تعدّدية ومساواة مواطنية ودولة توافقية شورية ديمقراطية مدنية. هذا ولا يلحظون أن التجربة الإسلامية التاريخية قامت على العقد الحر بين المكوّنات وجعل الإسلام من احترامه شريعة.
والأهم أن هذه الفرضية تذهب إلى إقصاء مكوّن عقدي سياسي اجتماعي في القطر العربي وعلى مستوى الأمة بدلاً من البحث عن التأليف والتوحيد في ما بين مختلف المكوّنات الدينية والإثنية والاجتماعية والسياسية في القطر الواحد وعلى مستوى الأمّة.
وإذا كان هنالك من التيارات الإسلامية ما وصل إلى حد التطرف والتكفير وارتكاب جرائم القتل بحق الأبرياء، فهذا لا يعني وضع جميع التيارات الإسلامية في سلة واحدة، ولا يعني عدم رؤية سهام التطرف والتكفير والجريمة متجهة إلى التيارات الإسلامية الأخرى، وإلى عامة المسلمين الذي لا يبايعون الخليفة أو الأمير المعني. الأمر الذي يحول دون إقامة أوسع جبهة ضد التطرف والتكفير، ويترك لها حاضنة اجتماعية كبيرة.
أما الفرضية التي تعتبر البديل هو الوطنية والقومية بعد إقصاء المرجعية الإسلامية ومن يأخذون بها في السياسة والاقتصاد جملة فينسون ما قام من صراعات حتى الاقتتال في ما بين تيارات وأحزاب على مستوى القطر الواحد أو على مستوى أقطار عربية. بل أن أشدّ الصراعات العدائية قامت داخل الحزب الواحد والتيار الواحد حين وقعت انشقاقات، أو انقلابات في تسلم السلطة، وداخل أهل السلطة. أما في الغرب فتاريخ ثوراته الحديثة يعجّ بالحروب الأهلية والانقسامات تحت رايات الوحدة والدولة القومية والأنظمة العلمانية.
فلا المرجعية أية مرجعية، ولا الانتماء أي انتماء، حال أو يحول دون الانقسامات الداخلية التي تصل إلى حد العدائية القصوى والتشظي والحروب الأهلية. وأن على هذه الموضوعة دلائل عربية وعالمية لا تحصى. فلماذا يُراد الاستفراد بالمرجعية الإسلامية والانتماء الإسلامي بسمة التسبّب بالتشظي أو بما آلت إليه الأوضاع العربية؟ ومن ثم عدم البحث عن الأسباب الحقيقية التي هي وراء الانقسامات والتشظي والاقتتال؟ بل ولماذا لا يُرى الصراع على السلطة لا سيما بعد وقوع اختلال كبير في موازين القوى، ولا تُرى مسؤولية السياسات التي تذهب إلى الانفراد وتهميش الآخرين وإقصائهم من أسباب ما يحدث فيما اتباع سياسات الانفراد والإقصاء سمة مشتركة تبرز داخل مختلف المرجعيات والانتماءات ولا تقتصر على مرجعية بعينها دون غيرها. فهنالك سنن تفعل فعلها في الجميع. وتؤدي في معادلات معينة من موازين القوى إلى ما نشهده من فوضى وصراعات وانقسامات كما نشوء الانحرافات والتطرف تحت مسميّات وأردية مختلفة.
إن عدم قراءة الظواهر قراءة معمقة تعتمد على فهم السنن الحاكمة في صراعات البشر، وعدم قراءة السياسات وتغيّرات موازين القوى، ومن ثم اللجوء إلى التفسير السهل غير المفكر به جيداً كالذي يفسّر الظواهر والسياسات بإعادتها إلى المرجعية لن يساعد على التوصل إلى تقدير صحيح للموقف ومن ثم إلى السير في طريق الحل على هداه.