لماذا؟!، لفترة جاوزت الشهرين ظل هذا السؤال يطاردني، لم يكن سؤالي/استنكاري بسبب كون المشاهد والحكايات التي اختارتها كل من السيناريست مريم نعوم والمخرجة كاملة أبو زكري لعرضها من النص الذي كتبته الراحلة فتحية العسال تشكل "خروجا على عادات وتقاليد المجتمع الذي نعيش فيه وتشكل طعنًا في جسده" كما في نص الدعوى القضائية التي تختصم صُنّاع العمل في محكمة جنح عابدين، وليس استنكاري يحمل في ثناياه انتقادًا للمستوى الجيد جدًا لعمل درامي متميز يحمل طابعًا نسائيًا في أغلب تفاصيل صناعته، ولكن كان لحيرتي أسبابًا أكثر بساطة وتعقيدًا في الوقت ذاته.
لم أستطع أن أفهم كيف يمكن للبعض تجاهل واقع محيط يفوق في بشاعته ما قدمه المسلسل؟!، ليس الحديث هنا عن أن "الفن مرآة الواقع" وغيرها من نقاشات بالية لا قيمة لها في رأيي، ولكن بالأساس الهدف هو محاولة تفسير تعاطف كثيرين مع مشاهد المسلسل ومناقشتها باهتمام شديد مع تجاهل تام -في الوقت نفسه – لمشاهد مماثلة حقيقية تحدث في الواقع الذي يشهد تأزمًا لقضايا الحريات وحقوق الإنسان مع استمرار
اعتقال المئات إن لم يكن الآلاف منهم النساء والأطفال القُصّر في مشاهد شديدة البؤس حتى لو لم تكن "كادرات" الاعتقال والتعذيب والامتهان تُصاحبها الموسيقا التصويرية للمبدع تامر كروان كما في المسلسل.
فشلَ التفسير الفرويدي المباشر في تقديم الإجابة، فكون العنف يخاطب الطبيعة البدائية للإنسان التي تحاول العوامل المدنية أن تكبحها لا يشرح كيف تختار هذه الطبيعة أن تتجاهل عنفًا حقيقيًا يحدث في محيطها لتشاهد آخر مصنوعًا مهما بلغت دقة هذه الصناعة، ازدادت أهمية محاولة الإجابة عن السؤال حين وجدت أنّ كثيرين من المهتمين بالشأن العام وخاصة من النساء قد انضموا لفئة المتابعين لما يحدث في السجن الموجود خلف الشاشة الفضية باهتمام يفوق اهتمامهم بما يحدث على أرض الواقع حيث لا توجد "cut" ليصرخ بها المخرج ليطيعها السجَّان.
كذلك فشلت الفروقات بين كون واقع ما يحدث حاليًا في سجون النساء يحمل طابعًا سياسيا وبين سجن الدراما التليفزيونية التي تحمل طابعًا اجتماعيًا واقتصاديًا في خلق منطق متماسك يفسر هذا (الـحـَــوَل) والتَّحوُّل، كثيرات من سجينات عنابر النساء بالأبعدية من "الغارمات" ممن ليس لهن نشاط سياسي أو سجل إجرامي يدينهن كمحترفات إجرام، فقط مدينات بألوف قليلة من الجنيهات لأنهن كن الضامنات لقروض حصل عليها الزوج. في الوقت نفسه لا يمكن فصل التحولات/الصراعات الاجتماعية والاقتصادية وآثارها عن البُعد السياسي وخاصة في العقود الستة الأخيرة. فالقهر واحد والسجن كذلك واحد. وبنزع الأيديولوجيا وأوهام البطولة يبقى لنا “سجين يصارع سجنه” بحسب تعبير المفكر السوري ياسين الحاج صالح.
بشكل ما تعرَّض الكاتب جلال أمين لأحد جوانب المشكلة في مقال له بجريدة الشروق تحت عنوان (أشكال وألوان من الهجرة) حين تحدّث عن نوع من الهجرة أسماه "الهجرة الداخلية": “حيث يدفع الإحباط عددًا كبيرًا من المهتمين بالشأن العام إلى الانكماش داخل النفس، والنفور من الخوض في الحديث "بل وحتى في التفكير" في المشاكل العامة، ومحاولة التعويض عن ذلك بالاهتمام بأمور شخصية أو عائلية "أو مجرد التظاهر بذلك" بدرجة أكبر من ذي قبل”، وضرب الكاتب عدة أمثلة للهجرة الداخلية بما حدث لأغلبية من المثقفين
المصريين في أعقاب الانكسارات والهزائم في فترات مختلفة من التاريخ المصري الحديث.
إذًا يمكن اعتبار عزوف الإنتليجنسيا المصرية عن الاهتمام بالشأن العام هو اعتراف ضمني بهزيمتها وتسلميها بذلك، ولكن ما زال هذا الطرح قاصرًا لا يقدم تفسيرًا لاتجاه المنهزمين في معاركهم لمتابعة عمل درامي يعرض ما يمكن اعتباره بشكل أو بآخر من تبعات هزيمتهم، فالمسلسل لا يتحدث عن سجون في مكان آخر كأبي غريب وجوانتنامو أو في زمن آخر كسجون القلعة المصري أو تدمر السوري أو الباستيل الفرنسي، ولكنه يحكي "يحاكي" قصصًا معاصرة تشهدها سجون النساء بالقناطر وعنابر النساء بسجن الأبعدية بالبحيرة، بل ساهم وجود طاقم العمل الدرامي لتصوير بعض المشاهد بسجن القناطر في إجراءات أمنية استثنائية سببت تضييقًا على أهالي المسجونات "الحقيقيات" الذين كانوا متواجدين يومها لغرض الزيارة في تماس بائس يمكنه أن يستحضر ضحكات باهتة سوداء.
مسـاكـين بنضحك م البلوة
زي الطيور والروح حلوة
سارقاها م السكين حموة
ولسه جوه القلب أمل!
نجيب سرور.
في محاولة لفهم اختيار البعض متابعة ما حدث لدور ودلال سجينات المسلسل والتعاطف معهن وتجاهل وقائع مُرعبة مثل تعرية سجينات القناطر، يشرح الدكتور "جلين والترز" الخبير بعلم النفس الجنائي أن هناك ثلاثة عوامل توضح جاذبية أفلام الرعب، ثالثها وهو الأهم بحسب وصف الدكتور هو في كونها "غير حقيقية"، أنّ المشاهد يعلم أن ما يراه – على دقة صناعته – غير حقيقي، للإيضاح استعان البروفسير بتجربة لزملاء له توضح كيف لم يحتمل تلاميذهم أن يشاهدوا أفلامًا وثائقية تعرض مشاهد مليئة بالقتل والدماء واستمر عدد قليل منهم لنهاية العرض، بينما أقر أغلب هؤلاء الطلبة أنهم يدفعون المال لمشاهدة أفلام تعرض ما هو أبشع وأسوأ في صالات السينما. ربما هي مصادفة كون الدكتور والترز عمل لثلاثة عقود مع الحكومة الأمريكية في متابعة نزلاء السجون الفيدرالية والعسكرية.
يعتبر "أرسطو" أن الاهتمام بالقصص المخيفة والمسرحيات التي تتضمن قدرًا من العنف ناتج عن اعتبارها وسيلة للتنفيس وإفراغ المشاعر السلبية. مما أعطى احتمالًا أنّ مشاهدة الأعمال التي تتضمن مشاهد مرعبة وكذا ممارسة ألعاب الفيديو العنيفة يمكن أن يكون مخرجًا ما للتعاطي مع المشاعر السلبية كالغضب والإحباط بدلًا من كبتها، وهو ما أثبتت الدراسات العلمية خطأه وأكدت أنها تزيد من الميل لممارسة العنف لدى مشاهديها، الدراسات نفسها لم تستثن احتمالية أن هذه المشاهدة – رغم أضرارها – ربما تلعب دورًا في خفض الخوف!!
ربما كان هذا الاحتمال هو الإجابة التي أبحث عنها، ربما كان الخوف كأحد أعراض ما بعد الصدمات التي يعاني منها كثيرين من أفراد "حلم" أنتمي إليه، حلم جمع أفرادًا من أجيال مختلفة، بالغ البعض في مدحهم باعتبارهم يشكلون معًا "الجيل إكس" الذي سيغير من وجه الحياة، أو بالغ البعض في الإساءة إليهم واعتبار أن قدرتهم على النهوض والتعبير عن أنفسهم وسط بيئة غلبها التصحر هو أمر يستدعي الاحتقار والحكم عليهم دائمًا بالهزيمة باعتبارهم سيظلون دائمًا موصومون بأنهم أبناء الأرض البور.
ربما كان الانضمام لمقاعد مشاهدي الدراما هو هزيمة تتبعها هجرة واستسلام كاملين، ربما كانت استراحة اضطر إليها من اُنهكوا واستُنزفوا على عدة مستويات من دون أن يكون لهم آليات دفاعية تمكنهم من الحفاظ على سلامتهم النفسية، ربما سيأتي اليوم الذي نرى فيه العائدين من هجرتهم الداخلية وقد صاروا أكثر قوة وأكثر حكمة في اتخاذ القرارات.
ليست الكلمات السابقة محاولة للمقارنة بين الواقع والعمل الدرامي الذي عُرض في شهر رمضان الماضي، فالمقارنة – على كونها عمل ساذج – إلا أنها ستحمل مدلولًا شديد السوء، فالثورة – 25 يناير – كانت طوق الخلاص لسجينات العمل الدرامي، بينما سجينات واقعنا ما زلن مسلوبات الحرية في ظروف شديدة السوء رغم أن هناك من يواصلون إخبارنا بأن هناك ثورة ما قد انتصرت.
(ساسة بوست)