لم يمض وقت طول على انتهاء مسرحية انتخابات الرئاسة حتى بدأت موجة من الملل الثوري تصيب الحراك ضد
الانقلاب في
مصر، فقواعد اللعبة التي كانت موجودة في الفترة الماضية بدأت في التغير لصالح قواعد جديدة يحاول فيها النظام تنفيذ برنامجه السياسي بعد تجاوز شوط كبير في مرحلة تثبيت أركانه، فالشارع اليوم مشغول بالثناء على عودة "الأمن" للشارع و الانضباط، وتجاوز قطاع كبير من الشارع سرديات (
الثورة - الحق - الظلم) لصالح التحسن الذي بدأ يلمسه أمنيا ومروريا مما يوحي بعودة استقرار ما قبل يناير، حيث تعمدت أجهزة الأمن تعطيش الشارع بالفوضى والاضطراب الأمني وربطها بحالة الثورة.
و السؤال هنا هل عاد مسار الثورة اليوم صالحا أم أننا تراجعنا للوراء قليلا؟..، إن الواقع المُشاهد الآن يوحي بأن التراجع تم فعلا و أننا في طريقنا لمرحلة ما قبل الثورة حيث أن هناك مرحلة لابد أن تتم قبل مرحلة "الثورة" ألا وهي "التثوير"، أي زرع القابلية والاستعداد للثورة في عقول وقلوب قطاع كبير من الشارع حتى يمكن فعليا إحداث ثورة أو تحريك المشهد، هذه المرحلة يتطلب فيها توظيف "فشل" النظام وأخطاءه في عملية "دعاية" مستمرة و قوية واحترافية لتهيئة قطاع كبير من الشارع لفكرة الانتفاض مجددا، أو على الأقل تحييد دوائر الدعم التي حازها من قبل والتي تمنحه المشروعية مما يؤدي في النهاية إلى فشله في إحداث حراك مضاد لحراكك حال وصلت معه للعبة الحراك مجددا!
يقدم النظام على سياسات تقشفية صارمة ومتدرجة يحاول من خلالها الاندماج في منظومة الليبرالية الجديدة، وهذه السياسات ستثير حتما غضب الشارع حيث أن تحرير الأسعار ورفع الدعم لا يقابله في النهاية رفع متوسط الدخل، وهذا التوجه يعول عليه البعض في إسقاط النظام، ويختصر البعض أحلامهم في إسقاط النظام عبر انتظار تورط النظام في هذا المسار الذي بدأ بالفعل، ولكن الحقيقة أن هذا المسار نجح في بلدان عديدة في تجاوز عقدة الاحتجاج الشعبي، فاليونان وغيرها نجحت في اجتياز تحدي الاضطرابات الاحتجاجية عبر الدعاية الإعلامية و القمع المنظم، مما أفشل محاولات الثورة أو إيقاف التحول.
والنظام المصري استعد لهذا مسبقا عبر حملات ضخمة من الدعاية السياسية و تسخير كل البرامج الإعلامية و الصحف لدعم مرحلة التقشف هذه، وإقناع المواطن بضرورة ربط الحزام و تشمير السواعد و إشعاره بأنه أمام تضحية كبيرة لصالح الوطن، حتى وإن كانت حقيقة الأمر أنه يتم التضحية بهذا المواطن لصالح رأس المال وحريته!، ولأن هذه الدعاية قوية فهدفها إفشال أي محاولة توقظ المواطن من سباته و تشعره بعملية مص الدماء التي تجري له فلا يمكن أبدا تحرير الأسعار دون رفع مستوى الدخل، وعليه فإن انتظار "الثورة" بسبب سياساته الاقتصادية هو تعويل ضعيف جدا، فالثورة لا تكون أبدا بسبب "الظلم" و إنما بسبب "الشعور" بالظلم، فالمظلوم الذي لا يدرك أنه يتم استنزافه وظلمه وبدلا من ذلك يعيش حالة من حالات الفداء للوطن والتضحية لصالحه.. لن يثور أبدا!
وعليه يصبح "التثوير" وعمليات الدعاية المضادة للنظام والاحترافية هي أحد أهم أعمدة الثورة والإعداد لها، ولا يمكن تجاوز ذلك والتعويل على مجرد "استمرارية" الحراك سواء في (3\7) أو في غيرها، فكما أن استمرارية التظاهر مهمة جدا في استنزافه والحفاظ على جذوة معارضة النظام، إلا أن التظاهر الروتيني غير المتسع و غير المنتشر يتحول تدريجيا لورقة تفاوض ومساومة أكثر من كونه عامل ثورة، وبالتالي يصبح العمل على قدم وساق في لعبة الرأي العام وتوظيف الأضرار الجانبية لعملية التحول الاقتصادي هدفا رئيسيا وشرطا لازما في عملية التثوير وهو شرط لازم سابق على الثورة نفسها، ولا أرى حرجا أن يعترف الحراك بأنه تراجع للوراء خطوات إذا كان هذا الاعتراف سيتبعه عمل حقيقي وجاد لوضع استراتيجية مواجهة جديدة وليس استسلاما وركونا للواقع، فهذا النوع من الواقعية مهم جدا في تصحيح المسار.
يبقى الأمل من (3|7) وغيرها هو الحفاظ على معنويات الحراك بجميع مكوناته خارج السجون وداخلها، وإيصال رسالة للنظام أن الحراك لن يهدأ، وأن كل عمليات الاعتقال والقمع لم تخضع النفوس ولم تكسر الإرادة ولم تهون العزائم، لكن الأمل في "الثورة" له قواعده التي تتجاوز فكرة الحشد الميداني لفكرة الحشد المعنوي أولا، و تتجاوز نزع السلطة من النظام القائم لنزع سلطته من نفوس مؤيديه وداعميه أولا، وهذا طريق هام جدا لا يمكن تجاوزه أبدا، وأي حراك بدونه سيظل حراكا محدودا حتى وإن استطاع حشد الكثيرين، فأنظمة العالم الحديثة تضع نصب عينيها عملية الرأي العام وتدجينه كمهمة أولى، وهذا يفسر الإنفاق العالمي المرتفع على الإعلام وأدواته، فهو يكفيها مؤونة المواجهة المسلحة والإنفاق الأمني العالي والاضطرابات!
وأخيرا.. لا يمكن تنفيذ كل هذا بالعمل الفردي المباشر!، فأدوات التأثير والدعاية كبيرة وواسعة جدا تبدأ من عملية اختراع "مصطلحات" الترديد التي تنتقل بين الأفواه (word of mouth) وهي ليست بالعملية السهلة وقد طبقها الانقلاب في عمليات الإعداد، ومرورا بالحملات الإعلامية المنظمة التي تستهدف معاملات نفسية معينة لها علاقة بالسيكولوجية الجماعية للشعب، و توظيف مساحات كبرى من الخطاب الديني و السياسي والاجتماعي والعرفي، ورفع كفاءة وتأهيل القائمين بالدعاية كأفراد، حيث أن المستوى الاتصالي الفردي لكثير من أفراد الحراك لا يدرك حقيقة الدوافع النفسية للشارع وأنماط تفكيره، مما يدفعه للانعزال أو مهاجمته وهذه أولى خطوات الفشل!
كما أن رفع كفاءة المؤسسات الإعلامية الإلكترونية والتلفزيونية أمر هام جدا وتجاوز خطابها الخطاب التقليدي الممل وتقديم أوجه إعلامية جديدة غير الأوجه المعتادة المرتبطة بالمرحلة السابقة، وتوظيف القدرات المالية للكيانات المعادية للانقلاب في ضخ تمويل جيد للمشاريع الإعلامية و استدعاء الكفاءات في مجالات (علم النفس الاجتماعي - الدعاية - الإعلام - الاقتصاد - التخطيط) لتصميم حملات متدرجة ذات سلم تصاعدي ورؤية واضحة قابلة للتنفيذ وفق جدول زمني مرسوم وليس أمرها متروكا لحوادث الدهر وتطوراته!
هذه الآليات وغيرها هامة جدا في تحديد شكل الحراك ودعمه، وهي من آليات التثوير التي تسبق الثورة، وعليه لا أعول كثيرا على التظاهر وحجمه حاليا بقدر ما أعول على العمل الجاد في عملية نزع أسس المشروعية الشعبية عن النظام، وحصاره، والتحول من مرحلة الصمود والمقاومة لمرحلة الهجوم و القصف!