كتب فهمي هويدي: وقف بث حلقات «
البرنامج» ليس فقط قرارا قمعيا بحق مقدمه وفريقه، وليس فقط إنذارا لكل من يجرؤ على نقد الأوضاع العامة في مصر، لكنه أيضا كاشف عن أمر آخر بالغ الأهمية. ذلك أن المشكلة لا تكمن فقط في أن إحدى القنوات منعته، وإنما المشكلة الأكبر أنه ما من قناة أخرى في مصر باتت مستعدة لاحتماله.
وإذا كنا نتحدث عن نحو عشرين قناة تابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون الحكومي وعشرات القنوات التابعة للقطاع الخاص. فلابد أن يثير دهشتنا ألا نجد بين ذلك الكم الكبير من القنوات واحدة تتمتع باستقلال حقيقي يجعلها قادرة على احتمال برنامج ينتقد الأوضاع العامة والشخصيات العامة بجرأة وحرية.
قال لي أحد معدي البرامج في التليفزيون الحكومي إن تعليمات وزيرة الإعلام صريحة في منع ظهور أي ناقد لسياسة الدولة على شاشة تليفزيون الدولة. إذ لا بأس من الحديث بحرية عن أزمة المرور أو الغلاء أو انقطاع التيار الكهربائي وغير من الأمور المعيشية، أما التطرق إلى السياسات العليا فلا مكان له في القنوات الرسمية. ورغم أن ذلك أمر مستهجن من وجهة النظر الديمقراطية إلا أنه مفهوم في بلدان العام الثالث، التي يتعذر مقارنتها ومساواتها بالديمقراطية الحقيقية. باعتبار أن التليفزيون الرسمي في أغلب تلك الأقطار هو ملك الحكومة وبوقها الذي يخاطب الرعية. وهذه الأخيرة مطلوب منها أن تستقبل فقط. لأن الإرسال مقصور على الحكومة دون غيرها.
بقية القصة لا تخلو من طرافة، لأن المعد المذكور استغرب هو وزملاؤه تعليمات الوزيرة. وحين ناقشوا الأمر فيما بينهم فإنهم توافقوا على أن الأمر بسيط ولن يحدث فرقا ذا بال، لأن المشاهدين انصرفوا عن القنوات الحكومية التي باتت تخاطب السلطة ولم يعد يشاهدها أحد. من ثم فإن تعليمات الوزيرة تؤمن موقفها في حقيقة الأمر ولا علاقة لها بالتأثيرات المفترضة على الرأي العام.
إذا فهمنا موقف القنوات الحكومية، فإن سيلا من الأسئلة يتداعى في محاولة فهم موقف القنوات الخاصة. التي ما برحت تتحدث عن استقلالها. وتتضاعف تلك الأسئلة إذا تذكرنا أن تلك القنوات مارست درجة عالية من الشجاعة والجرأة في نقد النظام السابق، لكنها تخلت عن كل ذلك في ظل الوضع المستجد. وحالة برنامج باسم يوسف كاشفة بقوة لتلك المقابلة. ذلك أنه مارس حريته بلا سقف في ظل النظام السابق، إلا أنه تعرض للقصف والقمع بعد أول حلقة قدمها في ظل النظام الجديد. ووضع البرنامج لم يكن استثنائيا لأن الجميع أخذوا راحتهم آنذاك إلى أبعد مدى. والجميع التزموا الصمت وتخلوا عن شجاعة النقد وقسوته منذ عزل الرئيس السابق.
لا يقولن أحد أن قرار منع البرنامج سعودي وليس مصريا، رغم أنني لا أشك في أن القيادة السعودية تحمست له إن لم تكن قد سعت إليه، لأن السقف السعودي لا يحتمل مثل تلك الممارسات. لأسباب داخلية بحتة. وهو ما ليس لنا فيه كلام رغم تحفظنا عليه، لأنه شأن يهم الشعب السعودي بالدرجة الأولى. حتى إذا جاز لنا أن نقول إن القيادة السعودية منعت القناة السعودية من بث البرنامج، فإننا لا نستطيع أن نقول إن جميع القنوات المصرية الخاصة الأخرى لم ترحب بالبرنامج استجابة للضغوط السعودية أيضا. إذ إنه في هذه الحالة سيكون عذرا أشد قبحا من الذنب.
هذه الخلفية تسلط الضوء على حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن القنوات الخاصة ليست بالبراءة التي قد تخطر على البال. ولكن لها أجندتها الخاصة التي تتحكم في أدائها وضيوفها ورسالتها. وهو ما يدعونا إلى تحرى شخوص الممولين وعلاقاتهم بمختلف الأطراف المشاركة في حلبة السياسة، سواء كانت تلك الأطراف لها مصالحها الخاصة أم أن لها ارتباطاتها بمراكز القوى فى داخل مصر وخارجها. وذلك جانب تتزاحم فيه الأسئلة ويشتد فيه اللغط وتتعدد التأويلات والتكهنات. عند الحد الأدنى فالكلام كثير والأسئلة مثارة حول حفاوة بعض تلك القنوات بوجوه وشبكات مصالح النظام السابق وحول التمويل الخليجي لقنوات أخرى تخدم التحالفات الإقليمية الجديدة ـ كما أنها مثارة أيضا
وبوجه أخص حول علاقة تلك القنوات بالدولة العميقة في مصر.
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الليبرالية الجديدة التي تحتفي بهياكل الديمقراطية وأشكالها في حين تهدر وظائفها أو تعطلها. هي ذاتها التي تنحاز إلى حرية السوق والتجارة، وتتمسك بتأميم السياسة والإعلام. والرسائل التي نتلقاها تباعا حتى الآن توحي بأننا ماضون على ذلك الدرب، الذي أخشى أن يعيد إلينا الماضي ولا يصلنا بالمستقبل.
(بوابة الشروق المصرية)