كنت أعلم أنني ممنوع من الصرف، لكنها المرة الأولى التي أعرف فيها أنني ممنوع من السفر.
وخبرتي طويلة تمتد لنحو خمسة وخمسين عاما تقريبا في المنع من الصرف. لكن المنع الأخير كان اكتشافا بالنسبة لي، لم يتسن لي أن أتعرف عليه إلا صبيحة يوم الجمعة الماضي 23/5. فقد خبرت منع
المقالات وحذف أجزاء منها وشطب اسمي من قوائم الكتاب تارة والصحفيين تارة أخرى، وحوربت في الرزق وتعرضت للتشهير والتعريض. وجربت الإقصاء والإنذار والتهديدات المباشرة وغير المباشرة. ولم أكن في ذلك بطلا أو شهيدا ولا حتى ناشطا سياسيا، وإنما لأنني أعبر عن آراء لا تعجب البعض، لكنني تقبلته كله باعتباره ثمنا واجب الدفع في بلادنا إذا أراد صاحب الرأي ان يكون مستقلا، ومشغولا يرضي ربه وضميره وقارئه وليس يرضي السلطان. تقبلته مدركا أن غيرى دفع ثمنا أغلى كثيرا مما دفعت. واحتملته صابرا ومحتسبا، حتى اعتبرته نمطا تعايشت معه طوال العقود الخمسة التي خلت. وأراحني أن أظل كاتبا مشطوبا من جانب السلطة من ناحية، ومقبولا عند بعض القراء ومرتاح الضمير من ناحية ثانية. وظل شاغلي أن أعبر عن رأيي وقناعاتي في حدود السقوف المتاحة، وكنت مستعدا لأجل ذلك ان أقبل بنشر نصف رأيي أو ربعه أو حتى ما دون ذلك، لكن الذي قاومته ورفضته بشدة طول الوقت ان أخدع القارئ بكلمة أو أن أكتب شيئا أخجل منه. وخلال سنوات عملي في الأهرام كنت أكتب أشياء وأنا واثق من أنها ستمنع ولن يطالعها القارئ، لكنني كنت أرضي بها ضميري أمام الله.
الحسنة الوحيدة لما جرى أنني تحولت من كاتب مشطوب إلى كاتب مشهور، كنت قد تعرضت قبل نحو شهر إلى «شدَّة أذن» في مطار القاهرة كانت بمثابة رسالة إنذار، لكنني بلعتها في صمت وسكت، واعتبرتها من قبيل الرسائل التي اعتدت على تلقيها تعبيرا عن امتعاض الأجهزة الأمنية وعدم رضاها عما اكتبه. كنت مدعوا لحضور مؤتمر في إسطنبول عن الإعلام الفلسطيني، وفوجئت بأن ضابط الجوازات طلب منى الانتظار لبعض الوقت لأن الأمر يحتاج إلى مراجعة. واقتادني إلى مكتب يجلس فيه أربعه من الضباط الذين كانوا شديدي التهذيب، أجلسوني على مقعد أحدهم وقدموا إلى ما تيسر من مشروبات ساخنة وعصائر. وفهمت من أحدهم أن الجواز معروض على مكتب آخر تابع للأمن الوطني. وأن ضابط المكتب الآخر يوالي اتصالاته لإنجاز المعاملة. كان المشهد كله جديدا بالنسبة لي.
إذ لم يسبق لي أن تعرضت لذلك الموقف من قبل. جلست صامتا أتأمل الصورة ليس فقط مستغربا لما جرى معي بعد «الثورة»، ولكن أيضا لأن ذلك لم يحدث معي في «العهود البائدة»، لا في عهد السادات الذى اتهمني بأنني «شيوعي»، حسبما قال لي رئيس التحرير آنذاك الأستاذ علي حمدي الجمال رحمه الله، ثم فصلني من الجريدة في نهاية المطاف. ولا في عهد مبارك الذى حظر فيه الكثير مما كتبت، وهو ما جمعته فيما بعد في كتاب «المقالات المحظورة»، ثم جرى إقصائي من الجريدة بطريقة مهينة في نهاية المطاف. ولا في عهد الدكتور محمد مرسى الذي لم تسعده بعض مقالاتي الناقدة لسياساته واعتبرني صوتا «متشائما»، كل تلك العهود باختلاف درجات العسف فيها، لم أتعرض لما فوجئت به يوم الجمعة الماضي.
في سفرة إسطنبول عطلوني نصف ساعة في مكاتب ضباط الجوازات، وفى نهايتها جاء أحدهم متهللا وأعطاني جواز السفر قائلا «مبروك». أدهشني ذلك أيضا لأنني لم أتوقع أو أتصور أن سفر أي مواطن وتمريره من قبل ضباط الجوازات أمر يستحق التهنئة. المهم أنني بلعت العملية ولحقت بالطائرة، ولم أفتح الموضوع مع أي أحد.
هذه المرة كنت مدعوا لمؤتمر عن حوارات العالم الثالث في مدريد. ذهبت إلى المطار مبكرا تحسبا للتأخير، ومررت بنفس التجربة مع بعض الاختلاف. إذ تنقلت بين أكثر من مكتب وأتيح لي أن ألتقى ضابط الأمن الوطني في طابق آخر، ثم عدت إلى غرفة الضباط، وقدم إلى المقعد الذى جلست عليه أكثر من ساعة غير مصدق لما يجرى. وحين اقترب موعد إقلاع الطائرة كنت قد ضقت ذرعا بالموقف فقلت للضباط المحيطين إنني لن أستطيع أن أجلس أكثر من ذلك، ورجوتهم أن يعيدوا لي جواز السفر الذى كان محتجزا لدى ضابط الأمن الوطني. كأنهم كانوا يريدون ذلك كي يقال إنني غادرت ولم أمنع، إذ وجدت ترحيبا بما قلت وبعد دقائق أعيد إلي الجواز، وتم إنزال حقيبتي من الطائرة، وسمح لي بالعودة إلى بيتي.
بعد ساعتين فوجئت بأن وكالة أسوشيتدبرس أذاعت الخبر، وأدهشني أن بقية الوكالات اشتركت في إذاعته، كما أنني تلقيت سيلا من الاتصالات من
مصر وخارجها ظلت تستفسر عن صحة الخبر وأسبابه.
ورغم أن العملية وفرت لي شهرة مجانية لم أتوقعها، فإنني لم أكن أعرف أنني ممنوع من السفر كما ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية وبعض المصادر الأخرى. وحين سألت بعض المحامين الخبراء عن حكاية المنع قيل لي إنه تطور مسكوت عليه، لأنه إضافة إلى المنع الذى يتم بناء على قرار من النائب العام لسبب قانونيا، صار لدينا منع آخر يتم عبر الهاتف يسمونه «المنع السيادي» وهو يصدر عن المؤسسة الأمنية بالمخالفة للدستور والقانون وبغير علم النائب العام. وهو من معالم «الدولة المدنية» التي هي الآن بصدد الدخول في عهد جديد بالانتخابات التي جرى غدا. وهو تفسير حين سمعته قلت «
بشرة خير»!