البحث عن جذور المشكلة ليس سهلا، والجالسون على كراسي جلدية مريحة للظهر خلف مكتب جميل لن يجدوا الجرح الذي يرغبون في وضع أصابعهم عليه، دعوني أحكي لكم هاتين القصتين، الأولى جديدة والثانية قديمة بعض الشيء، ولكن في كل منهما درس يتوجب علينا الوقوف أمامه والتمعن فيه والاستفادة منه.
القصة الأولى: قرر عضو البرلمان البولندي ارتور دبسكي أن يغادر وطنه ليعيش في بريطانيا لبعض الوقت بمبلغ لا يتعدى 100 جنيه إسترليني كل أسبوع، والهدف كما قال: "أريد أن أعرف لماذا يعمل النظام في بريطانيا ولا يعمل في بولندا!! أريد أن أعرف لماذا الناس سعداء في بريطانيا ونحن البولنديين لسنا كذلك!! نريد أن نقول لحكومتنا ما هو الجيد في بريطانيا ليحضروه لنا".
سيمتهن عضو البرلمان هذا أي مهنة يستطيع أن يعيش منها، فهو يتوقع أن يقوم بغسل الصحون في المطاعم والتنظيف والقيام بأي شيء يساعده على البقاء في بريطانيا كما يفعل المهاجرون، حتى يعرف أسباب نجاح النظام البريطاني، فمراكز الأبحاث تقول إن حوالي ثلاثة أرباع البولنديين المقيمين في بريطانينا يبقون هناك لتأسيس حياة جديدة لهم، وأن 40% من البولنديين المقيمين في بريطانيا يفكرون في التقدم للحصول على جواز بريطاني، وقد أصدر البنك البولندي تقريرا يقول فيه إن المال الذي يرسله بولنديو المهجر إلى ذويهم يقل بمرور الوقت مما يثبت أنهم استوطنوا الدول التي يعملون بها.
أتساءل (أنا) بدوري ما الذي يميز بريطانيا عن غيرها من الدول الأوروبية لتكون جاذبة لكل هؤلاء البشر إليها!! ولماذا يترك المهاجرون العرب دولهم التي استوطنوها في أوروبا للذهاب للعيش في بريطانيا؟
هناك عدة أمور أستطيع أن أتحدث عنها، ولكن في رأيي الشخصي أنها دولة صممت للحياة، فكل شيء فيها يخدم الإنسان، مواصلاتها، إدارتها، أنظمتها، تنوعها، لن أتحدث كثيرا هنا، ولكن دعونا نعود لقصتنا الأولى.
لم يمض على ذهاب عضو البرلمان البولندي سوى أيام وقد يعود بعدها إلى دولته حاملا تقريرا متكاملا يساهم به في جعل بولندا أفضل، قد يكون صادقا في بحثه هذا أو قد يكون هذا المشروع جزءا من حملة علاقات عامة لحزبه كما يقول البعض، لا يهم!! المهم هو النتيجة التي سيحققها حال عودته إلى وطنه.
القصة الثانية: حضرت دورة تدريبية في أمريكا منذ سنوات وأخبرنا المحاضر الذي كان يعمل مع الحكومة الأمريكية القصة التالية:
كنت أعمل لدى حكومة إحدى ولايات الغرب الأوسط، وقد أصدرت هيئة التعليم تقريرها الذي يفيد بأن نسبة التلاميذ الهنود الحمر الذين يخرجون من التعليم لأسباب عدة في تزايد مستمر وطلب مني مسؤولي البحثَ عن جذور هذه المشكلة.
عرفت أنني لن أعرف الأسباب وأنا في مكتبي، فقررت أن أعيش مع الأطفال لمدة أسبوع، أنام معهم وأذهب معهم إلى المدرسة وأدرس حتى أعرف ما الذي يمرون به وما الذي يجعلهم يتركون مقاعد الدراسة في هذا الوقت المبكر من العمر.
يقول: اتصلت بعائلة لديها أطفال في عمر الدراسة تعيش في محمية للهنود على أطراف الصحراء، واستأجرت منهم غرفة صغيرة لمدة أسبوع، فكنت أستيقظ مع أطفالهم وأركب الحافلة إلى المدرسة وأجلس على مقاعد الدراسة وأعود في نهاية اليوم إلى المنزل معهم وبعد بضعة أيام عرفت المشكلة.
كانت المشكلة أن الحافلة في طريقها من وإلى المدرسة تمر في طريق ترابي غير معبد، ولم تكن الحافلة مكيفة والجو حار جدا في أشهر الصيف، فكان الطلبة يعانون من الغبار والحر طوال الطريق الذي يمتد لأكثر من ساعة.
عدت إلى مديري وطلبت منه طلبا عاجلا باستبدال الحافلات القديمة بأخرى جديدة ومكيفة، فانخفض تسرب الأطفال كثيرا جدا وأصبح متناسبا مع بقية المدارس والأطفال من أعراق مختلفة.
في كلتا القصتين كانت هناك مشكلة قرر شخص أن يجد حلا لها بطريقة تبني المعاناة لمعرفة الحل وليس بزيادة المعاناة لنسيان الحل.