يقع الكثير من الكتاب والمفكرين في خطأ شديد الخطورة عند التعامل مع المذاهب الاجتماعية المختلفة، وهو التعامل مع مواقفها الفكرية بمعزل عن جذورها الفلسفية.
فعلى سبيل المثال يقرأ أحدهم الكثير عن النظام السياسي الديمقراطي، والحريات الشخصية والسياسية في الليبرالية، في حين أنه لم يفهم الأسس الفلسفية التي قامت عليها الرأسمالية والليبرالية، كبراجماتية ويليام جيمس، ونفعية بنتام، ونظرية المعرفة عند جون ستيوارت ميل الخ..
وإذا به يتحفنا بأفكار عبثية من قبيل أن "الإسلام دين ليبرالي بطبعه"!، وأن "النظام السياسي في الإسلام نظام ديمقراطي"، مستدلاً بقول الله تعالى "وأمرهم شورى بينهم" الى آخر ذلك من الأفكار، وقد توقفنا من قبل في عجالة عند قضية الديمقراطية في مقال سابق بعنوان "جدلية الإسلام والديمقراطية".
وعلى غرار ذلك يقرأ أحدهم بعضًا من الأدبيات الماركسية، فينبهر بشعارات العدالة الاجتماعية والانحياز للبروليتاريا، ومحاربة استغلال الرأسمالية والثورة على الظلم و الاستغلال، فيسارع لإطلاق شعارات من قبيل "اشتراكية الإسلام" و "اليسار الإسلامي"، أو كما قال شوقي في نهج البردة "والاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى الظلم و الغلواء"!.
وتظهر كتابات عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه وأرضاه - وكيف أنه كان اشتراكيًا قبل الاشتراكيين، وما إلى ذلك من الأطروحات التي كانت سائدة إبان المرحلة الناصرية على وجه الخصوص، عندما كانت الأقلام تتبارى للدعاية للأيديولوجيا الجديدة للدولة، و لا مانع من إلباسها ثوبا دينيًا عن حسن ظن، أو سبق إصرار و ترصد.
فلماذا لا يكون الإسلام والاشتراكية أمران مترادفان؟ وهل يمكن للمسلم أن يكون مسلمًا و اشتراكيًا في آن واحد؟ إنني أجزم بما لا يدع مجالا للشك أن الإسلام و
الاشتراكية - وكذلك الإسلام والرأسمالية - لا يجتمعان ولن يجتمعا حتى يرث الله الأرض و من عليها.
وقبل الشروع في ذكر المقدمات التي تفضي إلى هذه النتيجة، فلا بد من التنبيه على أمر، ألا وهو أن هذا الكلام لا يعني عدم الاطلاع على الفلسفة الاشتراكية، أو عدم الاستفادة منها والإعجاب بها أحيانا، وببعض رموزها ومنظريها ومناضليها.
أما عن الأسباب التي تدعوني للقول بأن الإسلام والاشتراكية لا يجتمعان، فهي كثيرة أوجزها في نقطتين رئيستين، الأولى هي التناقض بين الرؤية الكونية عند كل من الإسلام والاشتراكية، فالاشتراكية تنظر إلى ظواهر الكون باعتبارها نتيجة لحركة المادة، وأن هذه الظواهر يمكن تفسيرها من خلال المنطق الجدلي، وعلى هذا فلا مكان للإله ولا لأي شيء متجاوز للمادة، لذا قال لينين كلمته الشهيرة "لا يمكن للشيوعي إلا أن يكون ملحدًا"، وهذا يعني أن الشيوعي إذا آمن بوجود قوة كامنة وراء الطبيعة أو "عقل كلي"، أو آمن بوجود إله فإنه يفرغ
الشيوعية من محتواها - تجدر الإشارة إلى الفارق بين مصطلحي الشيوعية والاشتراكية، فكلاهما يقوم على نفس الأسس الفلسفية، لكن الاشتراكية تعد خطوة في تحقيق الشيوعية، ولا مجال للاستطراد في شرح معنى كل منهما - ولسنا في حاجة إلى بيان مناقضة هذه الرؤية لرؤية الإسلام الإلهية.
والسبب الثاني للقول باستحالة الاجتماع بين الإسلام والاشتراكية، هو التناقض أيضا بين نظرية المعرفة في كل من الإسلام والاشتراكية، فالاشتراكية تتبنى المذهب التجريبي الذي يرى أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة الإنسانية، فكل ما لا يستطيع الإنسان إدراكه بحواسه ولا يستطيع العلم التجريبي إثباته، لا يعتبر ذا قيمة على الإطلاق و لا يعول عليه، ومن هذا المنطلق فإن الأديان ليست سوى محض خرافات ليس لها وجود إلا في أوهام المتدينين.
وهذا يتناقض مع نظرية المعرفة الإسلامية القائمة على الاعتراف بالعقل والوحي و الحس، كمصادر متعددة وغير متناقضة للمعرفة البشرية.
ختاما فإنني أرى ضرورة استيعاب هذه القضايا، لكل من أراد أن يتصدر لإصلاح شأن هذه الأمة، لأن الأمة لن تتحرر من أوضاعها المزرية، إلا عن طريق البحث عن حلول أصيلة بعيدة كل البعد عن تقليد الحلول المستوردة الجاهزة، وبعيدة كذلك عن الحلول التلفيقية من قبيل "الإسلام الاشتراكي"، و"الإسلام الديمقراطي".
إننا نحتاج لتنظير إسلامي ثوري، مستمد من موروثنا الفكري الإسلامي، ومستمد من الوحي قبل أي شيء، تنظير رافض للأوضاع القائمة، ورافض للحلول المائعة التي أدت - وما زالت تؤدي - بالأمة إلى نتائج مأساوية.