(ملحوظة: إذا كنت تقرأ الآن على بوابة الشروق الإلكترونية يرجى قراءة السطور التالية بعد الاستماع إلى الأغنية الموجودة فى الرابط التالى:
www.youtube.com/watch?v=FualkavBBMQ
أما إذا كنت تقرأ من النسخة الورقية فيمكن اعتبار المقال مجرد تحريض للبحث عن أغنية بعنوان (الطريق) لمحمد منير والاستماع إليها دون قراءته، وهو إن حدث سيكون نجاحا ساحقا يكتفى به هذا المقال).
مع أنها ظهرت إلى النور فى ألبوم (اتكلمى) عام 1984، وربما كتبت قبل ذلك بكثير، إلا أنها فى رأيى أهم غنوة تعبر عن المزاج النفسى السائد الآن لدى كثيرين، بشكل لم يستطع أن يعبر عنه أغلب الذين عاشوا أيامنا العصيبة هذه، بمن فيهم محمد منير نفسه. استمع إلى الكلمات بصوت منير وأتحدى أن يقفز إلى ذهنك شريط صورة مختلف عما نعيشه منذ فترة: «دارت بينا ريح الطريق.. وشقيق بإيده سالت.. دماء أخوه عالطريق.. وأمنا تنادينا.. ننسى اللى بيننا وفينا.. علشان عيون أمانينا.. ضل الطريق بينا.. مشينا.. ما درينا.. مين العدو م الشقيق... قالت لينا أم الجموع.. شمس الحقيقة غابت.. وغاب قمر الرجوع.. غاب الضمير وآدينا.. طرح الغل فى وادينا.. لا رجعنا ولا ابتدينا.. ضل الطريق بينا.. مشينا ما درينا.. مين العدو من الشقيق.. طال بينا الطريق.. وطال بينا الطريق».
كانت أول مرة أستمع فيها إلى هذه الأغنية فى سنتى الجامعية الأولى، فلم تحصل منى يومها على ما هو أبعد من الاستلطاف النابع من وطأة الانبهار العام بكل ما يكتبه عبدالرحيم منصور ويغنيه محمد منير، لكنها لم تبق معى طويلا، مثلما بقيت معى أغنيات مثل (كل الحاجات) و(عالمدينة) و(شبابيك) و(الحقيقة والميلاد)، ظلت لفترة طويلة شريط الصوت المصاحب لحياتى والمساعد على إضفاء طابع ملحمى عليها، يعيننى على تجاوز «درامتها» الرخيصة، ويدفعنى لمواصلة المسير نحو نهاية ما يجب أن تكون أقل سوءا.
ربما تفسر قراءة كلمات الأغنية عبورى السريع بها، كان عبدالرحيم منصور يتكلم فيها عن أشياء كانت تبدو وقتها «مش مستاهلة كل ده»: الحيرة بين العدو والشقيق الذى سالت دماؤه بيد أخيه وشمس الحقيقة التى غابت، حديثه عن أم الجموع فى مطلع الثمانينيات حين لم تكن مصر تشهد إلا جموع الماتشات بدا أقرب إلى الشكوى من الانفجار السكانى، تماما مثلما بدت شكواه من «طرح الغل فى وادينا» محض «أفورة»، لأن موديل الغل السائد كان الغل المصاحب لقضايا النفقة والميراث وتعدد الزوجات.
لحن حميد الشاعرى أشعرنى وقتها أنه لا علاقة له بكلمات الأغنية الغامضة، وتصورت أن ذلك ما جعل منير يضيف إليها كما من الـ«يويويويووه» لكى تشبهه أكثر، وحتى توزيع الجميل يحيى خليل للأغنية لم يفعل بروحى ما فعله من قبل توزيعه لأغنيات مثل (باعتب عليكى) أو (يا ليلة عودى تانى) أو (الحقيقة والميلاد)، وهو ما يبدو لى الآن ظلما بينا ليحيى وحميد يتوجب اعتذارا رقيق اللهجة على سوء تذوقى، قبل أن أتوجه لهما ولمنير ولعبدالرحيم منصور بأسمى آيات المحبة والامتنان، على هذه الأغنية التى تعبر كما لم يفعل غيرها عن هذه المرحلة الدامية الكئيبة من طريق الحرية الطويل والحتمى.
قبل أيام استخدمت الأغنية كحجة دامغة خلال جدال مع صديق عن جدوى الكتابة الآن فى زمن أصبح الاختلاف فيه جريمة تستوجب السجن والتخوين وتهديد الحياة، كان يسألنى بمزيج من الإشفاق والنبر كيف أتمكن من الكتابة المنتظمة فى ظروف كابوسية كهذه لا تروج فيها إلا كتابة الصوت الواحد، فأجبته بعد مقدمة نظرية طويلة فى فن التعايش مع العبث والأسى، أننى نجحت بعد عناء فى تدريب نفسى على أن تتعامل مع الحياة بروح مزارع فيتنامى يمتلك حقل رز شاء حظه العثر أن يكون ملاصقا لبركان على وشك الانفجار، يصحو كل يوم فيجد كل من حوله يحذره من قرب الانفجار ويطلب منه أن يتوقف عن الذهاب إلى حقله، ومع أنه يذهب دون أن يلقى بالا لتلك التحذيرات، إلا أنه لا يستطيع أن يتجاهل أصوات غليان الحمم التى تبقبق فى أذنيه، ولا رائحة الدخان البركانى المتصاعد من الفوهة التى تخنقه، ولا خيالات الحمم المتفجرة وهى تقفز إلى ذهنه منذرة بالهلاك الوشيك، لكنه مع ذلك كله، يذهب كل يوم إلى حقله ليعمل «باللى يقدره ربنا عليه»، ربما لأنه لا يملك اختيارا آخر، وربما لأنه اكتشف أن مواصلة فعل ما يجيده هو أفضل وسيلة يقاوم بها غموض المستقبل.
ليس فى اختيار فيتنام بالتحديد شفرة خفية من شفرات «أبلة فاهيتا»، ولا «ميتافور» يحيل إلى معنى الانتصار على القوى الأضخم عددا وعدة، بل وراءه ببساطة أننى قرأت مؤخرا عن بركان مرشح للانفجار قريبا فى فيتنام، كما أن اختيار الرز ليس له أيضا علاقة بالرز الفيتنامى الشهير، وإنما لأن زراعة الرز تتطلب الرى بالغمر، ومن خاض بقدميه داخل حقل رز سيدرك أن باطنه ليس جميلا كظاهره، لأن زراعته تتطلب من المزارع أن يطلع عين اللى خلفوه فى الطين اللازب طيلة اليوم، وهو نفس ما سيشعر به من لا يجد أمامه سبيلا لمقاومة العبث سوى الكتابة المنتظمة.
إذا لم تقنعك نظرية المزارع الفيتنامى وحقله المجاور للبركان ولم تجد فيها ما يغريك بتمثلها فى حياتك، استمع مجددا إلى أغنية منير، وتأمل أروع ما فيها: نهايتها البسيطة التى ستذكرك بالعبارة الصوفية المبهرة «الملتفت لا يصل»، والعبارة الثورية المستفزة «مكملين»، وعبارة باولو كويلهو الأكثر مبيعا وابتذالا «الكنز فى الرحلة»، وعبارة الإدارة العامة للمرور التى اتخذتها منذ زمن فلسفتى فى الحياة «لا تنشغل بغير الطريق»، وعبارة مولانا نجيب محفوظ «الحقيقة بحث وليست وصولا»، كل هذه العبارات سيُغنيك عنها منير حين يغنى «طال بينا الطريق.. وطال بينا الطريق» بمزيج من تقرير الحقيقة المؤسفة والتذكير بأنه لم يعد هناك بديل سوى مواصلة الطريق.
ولأن العمل الإبداعى يترك دائما مساحات فارغة ليملأها المتلقى، فإسهامى لملء الفراغ فى أغنية هذه يكون مع ابتعاد صوت منير التدريجى، حين أقول لنفسى بصوفية سكندرية الطراز مشفوعة باقتباسى المفضل من عبدالحليم حافظ «أحيه يا نفس يا مستعجلة.. طويلة لسه طويلة».