ثمة مجموعة من المستجدات على الساحة الإقليمية تشهدها منطقة
الشرق الأوسط، أبرزها الانفراجة المرتقبة في أزمة إيران مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي، وكذلك تداعيات 3 تموز/ يوليو في مصر وما ترتب عليها من عزل الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وتعقد المشهد السوري، في ضوء سياسات الخليج المضطربة تجاه الأزمة السورية، وهو ما عده البعض انتصاراً لإيران على دول الخليج، من خلال حالة التردد وغياب الحسم الغربي تجاه تبني موقف يسمح بزوال نظام بشار الأسد من سورية.
وللمشهد الإقليمي ترتيباته السياسية المعقدة، التي تعيد دور بعض الدول بالمنطقة وحسابات اعتبار أياً منها يُعد قوة إقليمية، يمكن أن تُدرج في معادلة إعادة تشكيل خريطة المنطقة، وبلا شك فإن الأمر يأخذ المكاسب والخسائر
الاقتصادية في الحسبان.
وبحكم الوجود التركي في المنطقة واشتباك
تركيا مع معظم القضايا والأزمات المتعلقة بالمنطقة في إيران وسورية والخليج ومصر، فمن الطبيعي أن تتم قراءة الآثار الاقتصادية لهذه التطورات على تركيا.
المشهد الإيراني
تشير بيانات وزارة الخارجية التركية إلى أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران في عام 2010 بلغ 10.6 مليار دولار، بعد أن كان بحدود 1.2 مليار دولار في عام 2002، وتخطط الدولتان ليصل حجم التبادل بينهما إلى 30 مليار دولار في عام 2015.
وحقق الميزان التجاري على مدار العقد الماضي فائضاً لصالح إيران، ففي عام 2010، بلغ الفائض التجاري لإيران نحو 4.6 مليار دولار.
إلا أن تقديرات عام 2012 تشير إلى وصول حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران إلى نحو 20 مليار دولار، وهو ما يعد قفزة في حجم
التجارة بين البلدين، ويعيد ترتيب الشركاء التجاريين بالمنطقة مع إيران، وبذلك ستزاحم تركيا الإمارات في المركز الأول كشريك تجاري لإيران.
الصادرات الإيرانية لتركيا تكاد تكون محصورة في منتجات التبغ والنفط والغاز، أما الصادرات التركية لإيران فمتعددة، منها العدد والآلات ووسائل النقل، والحديد والصلب، والأجهزة الكهربائية.
وفي ظل هذه البيانات يمكن لتركيا أن تزيد من صادراتها لإيران خلال الفترة القادمة، في ظل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران.
لكن يلاحظ أن
الاستثمارات الإيرانية المباشرة ضعيفة للغاية فقد بلغت في عام 2010 نحو 110 مليون دولار فقط، وقد يرجع ذلك لطبيعة الفترة الماضية، التي عانت فيها إيران من عقوبات اقتصادية متعددة من قبل أمريكا والاتحاد الأوربي، مما ساعد على تقليص علاقات إيران الاقتصادية الخارجية. وتشكل السياحة الإيرانية المصدر الخامس للسياحة في تركيا.
وفي حالة رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، فمن الوارد بشكل كبير أن تراجع إيران سياسة النفط الرخيص، وهو ما من شأنه أن يُعلي من قيمة الصادرات الإيرانية، وزيادة الفائض التجاري لصالح إيران بشكل أكبر، وبخاصة أن تركيا تعتمد على النفط والغاز الإيرانيين بشكل كبير.
العلاقات مع مصر
منذ اللحظات الأولى اتخذت تركيا موقفاً واضحاً مما أسمته الحكومة التركية "انقلاب 3 يوليو العسكري" في مصر، وثمة توقعات بتأثيرات سلبية على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث يصل حجم التبادل التجاري بينهما لأكثر 4 مليار دولار، وتبلغ الاستثمارات التركية في مصر 1.5 مليار دولار، منها 1.3 مليار في المجال الصناعي من خلال 200 شركة تركية في مصر. كما قدمت تركيا وديعة للبنك المركزي المصري بمليار دولار إبان تولي محمد مرسي الرئاسة.
ومن الواضح، أن الوضع الاقتصادي في مصر لا يسمح لها باتخاذ قرارات تؤثر على العلاقات الاقتصادية مع تركيا بشكل سلبي، لأن الاستثمارات التركية بمصر إنتاجية وليست ريعية، ومن الصعوبة بمكان أن تضيف مصر في ظل "الانقلاب العسكرى" مشكلات من نوع إضافة عاطلين جدد نتيجة تصفية الاستثمارات التركية.
كما أن وضع احتياطي النقد الاجنبي المصري لا يسمح في ظل التداعيات الحالية باتخاذ مصر قراراً برد الوديعة التركية على غرار ما حدث مع قطر.
ومن جانب آخر، فإن هناك بداية لاتجاه نزولي لرصيد احتياطي النقد بمصر، على مدار الشهرين الماضين، كما أن هناك التزامات على مصر تخص خدمة الدين الخارجي والمقدرة بنحو مليار دولار، وكذلك استحقاقات الوديعة القطرية المقدرة بنحو 500 مليون دولار بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر القادم.
وبالتالي، يمكن استنتاج أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا ومصر ستظل كما هي، إلا أنها لن تشهد تطوراً أكبر مما هي عليه الآن، نتيجة للتوجه المصري المعارض للسياسة التركية المنددة بـ"الانقلاب العسكري" في مصر، على الصعيدين الإقليمي والدولي.
تركيا والخليج
تعد السعودية والإمارات عصب التعاملات الاقتصادية والتجارية مع تركيا، وتشير التقديرات الإجمالي للتبادل التجاري للخليج مع تركيا لوصولها لما يزيد بقليل عن 20 مليار دولار، ويغلب على طبيعة التبادل التجاري الصادرات النفطية من الخليج لتركيا، بينما الصادرات التركية تتمثل في منتجات صناعية.
وتعمل تركيا على جذب الاستثمارات الخليجية خلال الفترة الماضية، إذ لوحظ زيادة توجه الخليجيين لتملك عقارات بتركيا بعد أن سمحت تركيا بتملك الأجانب للعقارات، وبمقارنة حركة السياحة الخليجية لتركيا بالسياحة الإيرانية، نجد أن الموقف في صالح إيران، إذ يزيد السياح الإيرانيون عن أضعاف عدد السياح الخليجيين بتركيا.
وقد تمت تلويحات من قبل الإعلام مؤخراً بإمكانية استخدام الخليج للورقة الاقتصادية للضغط على تركيا لتغيير موقفها من "الانقلاب العسكري" في مصر، ولكن في ظل توسع العلاقات الاقتصادية لإيران مع تركيا بشكل مُلفت، وبخاصة في عام 2012، فإن الخليج سيعيد حساباته في ضوء إحداث نوع من التوزان الإقليمي.
قراءة المستقبل
من غير المعهود على سياسة أوروبا أن تعلن عن قرب رفع العقوبات الاقتصادية عن دولة ما، مثل ما هو معلن من تجاه أوروبا نحو إيران التي لم تتم تسوية الخلافات الخاصة بشأن برنامجها النووي بشكل كامل، وهو ما يطرح تصوراً بأن التسوية لن تكون سياسية فقط، ولكن لا بد من وجود حضور قوي للملف الاقتصادي بالمنطقة، كما أن التسوية السياسية لن تكون للملف الإيراني فقط ولكن قد تشمل ملفي سورية وحزب الله اللبناني.
وفي حالة اكتمال ملف التسوية الإيراني مع الغرب وأمريكا، فإن إيران في هذه الحالة ستعيد ترتيب ملفها الاقتصادي داخلياً حيث تعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية كبيرة، وهو ما سيجعلنا أمام انفتاح على العالم الخارجي لتلبية احتياجات سوق يبلغ عدد سكانه نحو 70 مليون نسمة.
وهنا سيكون لتركيا بحكم الجوار الجغرافي نصيب لا بأس به من توفير احتياجات إيران، مما يعني زيادة الصادرات التركية لإيران، ولكن في سياق أن إيران لن تضحي بعلاقاتها التجارية والاقتصادية مع الإمارات التي تعتبر ثاني أكبر شريك تجاري لإيران على مستوى العالم، ولتقوية وجودها في الإمارات من خلال جالية تصل لنحو 450 ألف فرد، وشركات إيرانية تصل لنحو 500 شركة، وبالتالي سيكون التوسع التركي اقتصادياً تجاه إيران محكوم بعلاقة توازن مع الإمارات.
وفي ضوء الإمكانيات الاقتصادية نجد أن الاقتصاد التركي سوف يمتلك ميزة نسبية في علاقاته الاقتصادية والتجارية مع إيران والخليج، إذ تمتلك تركيا اقتصاداً صناعياً بنسبة كبيرة، بينما الخليج وإيران في عداد الدول النفطية.
ولكن قد تعمل دول الخليج خلال الفترة القادمة إلى تحويل تجارتها بشكل نسبي من تركيا إلى مصر، من أجل تقديم مزيد من الدعم للنظام الجديد، الذي دفعت فيه دول الخليج بقوة، ويستلزم ذلك أن يستوفي الإنتاج المصري شروط الجودة العالية التي يتمتع بها المنتج التركي، الذي اعتمد المواصفات الأوروبية القياسية في صادراته، مما أكسبه موقفاً تنافسياً تجاه العديد من الصادرات الأخرى.
وإلى أن يحدث ذلك في حالة تفضيل الخليج لهذا السيناريو، فإن الأمر سوف يستغرق بعض الوقت لتغير ثقافة المستهلك الخليجي الذي قد يفضل المنتج التركي في الأجل القصير.
وينبغي أن نشير إلى مزاحم جديد لتركيا بالمنطقة من خارج الإقليم وهو الغرب وأمريكا، فهما لن يسمحا بأن يظل المسرح الإقليمي حكراً على دول المنطقة، وبخاصة أن أوروبا وأمريكا يعانيان من ركود وأزمات اقتصادية ومالية، ويبحثان عن مصدر لإنعاش اقتصادياتهم.
وبالتالي قد يفتح الباب لاستثمارات أوروبية على الأقل في الأجل القصير بإيران وكذلك إعادة تنشيط العلاقات التجارية، وهو ما يعني مزاحمة تركيا في السوق الإيراني.