خاض دونالد
ترامب
حملته الانتخابية على أساس إنهاء
الحروب الخارجية، وزعم أن الحرب في أوكرانيا وفي
غزة ولبنان ومناطق أخرى ما كانت لتقع لو أنه كان رئيسا، وحاجج بأن الصراعات تضيع
أرواح الأمريكيين وثرواتهم بلا فائدة. لكن فهم ترامب للحرب الدائمة ينطوي على
تصورات زائفة ومخادعة، فهو يقوم بخلق الأسباب والظروف والشروط الموضوعية للحروب
الدائمة، وإبان ولايته الرئاسية الأولى اعتمد على الحرب كأداة منتظمة للسياسة
الخارجية، واستمر في النهج التدخلي لأسلافه في الشرق الأوسط، وتوسع في شن هجمات
عسكرية في بلدان عديدة تحت ذريعة حرب الإرهاب، ودعم الحرب على اليمن، وشن ضربات
على منشآت عسكرية سورية، وهدد بتدمير كوريا الشمالية، وأرسل سفنا مسلحة عبر بحر
الصين الجنوبي.
يحب دونالد ترامب
الحديث عن إنهاء الحروب التي لا تنتهي، ولا يكف عن انتقاد أسلافه بسبب أخطائهم
العسكرية، وإذا كان ترامب لم يبدأ بشن حروب جديدة في عهد ولايته الأولى، فإنه أشعل
فتيل الحروب القائمة على نطاق واسع، واقترب من حروب جديدة كارثية. فمنطق الحرب
الترامبية مختلف، لكن جوهر الحرب يقع في صلب المكونات الإمبريالية الرأسمالية
الأمريكية. فالحرب التي لا تنتهي صناعة أمريكية حصرية، وهو مصطلح، إلى جانب عبارات
مماثلة مثل "الحرب الدائمة" و"الحرب إلى الأبد"، استخدمته
الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، تحت ذريعة حرب
"الإرهاب"، وهي حرب مفتوحة في الزمان والمكان ضد الأعداء المفترضين. وفي
السنوات الأخيرة، وعد السياسيون الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء بإنهاء
الحرب التي لا نهاية لها، للتفرغ للتحديات الجيوسياسية التي تهدد الهيمنة
الأمريكية بعد صعود قوى دولية منافسة كالصين وروسيا.
تعتبر منطقة
الشرق الأوسط مثالية لفهم منطق الحرب الترامبية الدائمة، فقد خلق ترامب الظروف
والشروط والأسباب الكافية لديمومة الحرب في الشرق الأوسط. ففي السادس من تشرين
الأول/ أكتوبر 2023، أي قبل يوم واحد من هجوم حماس في عملية "طوفان
الأقصى" على فرقة غزة ومستوطنات الغلاف، كانت القضية
الفلسطينية قد أصبحت في
طي النسيان، وخلق ترامب في فترة الولاية الأولى مسارات تصفية القضية الفلسطينية،
حيث تبنّى بالكامل أطروحات اليمين الديني الصهيوني، وأحاط نفسه بمجموعة من
المتطرفين الصهاينة، أمثال صهره ومستشاره جاريد كوشنر،
ترامب لا يقف ضد الحرب التي لا نهاية لها، بل إنه تجسيد للحرب التي لا نهاية لها، فالحرب جوهر نظام التشغيل الخاص به، وهو تجسيد للرأسمالية والإمبريالية. فقد دخل ترامب عالم السياسة لأنه أدرك أن الحرب التي لا نهاية لها هي حرب بوسائل أخرى، والخلاف بين فرقاء السياسة الأمريكية في كيفية مساهمة الحرب في خدمة "أمريكا أولا". فكلا الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة يتبنيان سياسات إمبريالية على المستوى العالمي؛ جوهرها الحرب
والسفير الأمريكي السابق في
إسرائيل ديفيد فريدمان؛ الذي أصدر مؤخرا كتابا بعنوان "دولة يهودية واحدة:
الأمل الأخير والأفضل لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، ويزعم فيه أن
الولايات المتحدة لديها واجب توراتي لدعم ضم إسرائيل للضفة الغربية.
وقد تجاوز ترامب
إبان ولايته الأولى السياسات الأمريكية التقليدية المنحازة أصلا للمستعمرة
الصهيونية، وقضى على أي احتمال لحل الدولتين، فاعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل
السفارة الأمريكية إلى هناك، وقوّض السلطة الفلسطينية، وأغلق مكتب منظمة التحرير
الفلسطينية في واشنطن؛ وسمح لإسرائيل بضم مرتفعات الجولان، وانسحب من الاتفاقات
النووية مع إيران، وقام باغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وختم
جهوده برعاية الاتفاقيات الإبراهيمية، التي تهدف إلى دمج إسرائيل في المنطقة
وتحاوز القضية الفلسطينية، وخلق واقع جيوسياسي تقوده إسرائيل كقوة إقليمية وحيدة
وجعل إيران محور الشر ومهدد الاستقرار.
إن ترامب لا يقف
ضد الحرب التي لا نهاية لها، بل إنه تجسيد للحرب التي لا نهاية لها، فالحرب جوهر
نظام التشغيل الخاص به، وهو تجسيد للرأسمالية والإمبريالية. فقد دخل ترامب عالم
السياسة لأنه أدرك أن الحرب التي لا نهاية لها هي حرب بوسائل أخرى، والخلاف بين
فرقاء السياسة الأمريكية في كيفية مساهمة الحرب في خدمة "أمريكا أولا".
فكلا الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة يتبنيان سياسات إمبريالية على المستوى
العالمي؛ جوهرها الحرب لديمومة الهيمنة والنهب، بينما ينحصر الخلاف بينهما في
القضايا الداخلية.
من هنا يظهر خيار
التصويت لصالح "الشر الأقل" وكأنه استراتيجية مبررة، حيث يتم الدفاع عن
هذا الخيار كخير مطلق بغية التغلب على "الشر الأكبر". غير أن هذا المنطق
يغض الطرف عن مصير مليارات البشر حول العالم الذين تخضعهم الولايات المتحدة
لهيمنتها وتقمعهم بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل تحقيق بعض الإصلاحات الداخلية
التي تمسُّ فقط شريحة من الطبقة الوسطى في أمريكا، والتي تعد، إلى جانب الأثرياء
الأمريكيين؛ المستفيد الرئيس من السياسات الإمبريالية التي تفرضها الولايات
المتحدة عبر القمع والاستغلال على شعوب العالم الأخرى من خلال الرأسمالية الدموية
التي أوضحتها الناشطة والباحثة ساياك فالنسيا، حيث تشير الرأسمالية الدموية إلى
التوسع الحتمي للعولمة التي يصبح العنف بموجبها وسيلة لاكتساب القوة الاقتصادية.
وتُعرِّف فالنسيا الرأسمالية الدموية بأنها "إراقة الدماء السافرة وغير
المبررة، وهو الثمن الذي يدفعه العالم الثالث مقابل التزامه بمنطق الرأسمالية
المتطلب بشكل متزايد"، ففي سياق الرأسمالية الدموية، لا أهمية للحياة بقدر
أهمية المال؛ لذلك يتفشى القتل.
خلال حملته
الانتخابية ادعى ترامب أنه سوف ينهي الحرب في الشرق الأوسط، لكنه في حقيقة الأمر
من أشعلها حين خلق كافة الأسباب التي صنعت الحرب، فقد تفاخر ترامب دون خجل
بالخطوات التي اتخذها في ولايته لأولى كرئيس للولايات المتحدة؛ من الاعتراف بمدينة
القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف
بسيطرة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة، واتفاقيات أبراهام، حيث وافقت
الإمارات والبحرين على تطبيع العلاقات مع تل أبيب.
وقد اتهم ترامب
والجمهوريون المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين بمعاداة السامية، وفي أيار/ مايو
الماضي، تعهد ترامب بترحيل الطلاب المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين من الولايات
المتحدة إذا انتخب رئيسا، وذلك في مناسبتين منفصلتين، وأشارت شبكة إن بي سي نيوز
أيضا إلى أن ديباجة البرنامج الذي تم اعتماده في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في
تموز/ يوليو وصفت المتظاهرين بأنهم "متطرفون مؤيدون لحماس".
الحروب توفر حافزا اقتصاديا بالغ الأهمية، فقد نجحت تاريخيا في انتشال النظام الرأسمالي من أزمات التراكم، في حين تعمل على صرف الانتباه عن التوترات السياسية ومشاكل الشرعية. وقد استغرق الأمر الحرب العالمية الثانية لرفع الرأسمالية العالمية من الكساد الأعظم، كما أضفت الحرب الباردة الشرعية على نصف قرن من الميزانيات العسكرية المتوسعة، وساعدت حربا العراق وأفغانستان، الأطول في التاريخ، في الحفاظ على الاقتصاد متعثرا في مواجهة الركود المزمن
رغم أن الرئيس
الأمريكي الصهيوني جو بايدن منح إسرائيل كل ما تحتاجه وأكثر من الأسلحة والأموال،
وعمل سياسيا على تغطية جرائم الإبادة في غزة ولبنان، لكن ذلك لم يشفع له، بعد أن
فرضت إدارته عقوبات شكلية وتجميد أصول تافهة على جماعات وأفراد من المستوطنين
المتورطين في أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، فقد
احتفل نتنياهو وأنصاره من اليمين الصهيوني الديني المتطرف بانتخاب ترامب رئيسا
للولايات المتحدة، وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي إن ترامب حقق "أعظم عودة في
التاريخ"، وقال في بيان "إن عودتكم التاريخية إلى البيت الأبيض تقدم
بداية جديدة لأمريكا وإعادة التزام قوية بالتحالف العظيم بين إسرائيل
وأمريكا"، وهو ما ردده زعماء الأحزاب الدينية القومية اليمينية المتطرفة في
ائتلافه.
تكشف مسارات
الحروب الأمريكية عن أن الحرب بنية ملازمة للإمبريالية تتجاوز الادعاءات
الانتخابية الحزبية، فالحروب سمة بنيوية للرأسمالية، فالرأسمالية هي أشد المجتمعات
دموية وتماهيا مع الحروب على مرّ التاريخ البشري، فقد ارتبطت نشأة الرأسمالية
وازدهارها بسياسات الحرب والسيطرة على موارد وثروات شعوب ما سمي في زمن سابق
"المستعمرات وأشباه المستعمرات"، أي بلدان جنوب العالم. فالتشكيلة
الرأسمالية هي التي تحرك التوحش الرأسمالي على الإنسان والطبيعة، عبر شن الحرب،
والشّرق الأوسط هو ساحة حربٍ وليس مجرد موقع تصنيعٍ و"استغلال" تجاري في
الرؤية الأمريكية، وإسرائيل هي قلعة للإمبريالية وحاملة سفن أمريكية ومتعهد لإدامة
الحرب.
إن الحرب الدائمة
مركزية في خلق فائض القيمة من خلال التراكم العسكري، كما أوضح وليام روبنسون في
كتابه الصادر عام 2020 بعنوان "دولة الشرطة العالمية"، إذ يعتمد اقتصاد
الحرب العالمي على الدولة لتنظيم صناعة الحرب، والسيطرة الاجتماعية والقمع لدعم
تراكم رأس المال في مواجهة الركود المزمن وتشبع الأسواق العالمية، وتوفر دورات
الدمار وإعادة الإعمار منافذ مستمرة لرأس المال المتراكم بشكل مفرط، فهذه الدورات
تفتح فرصا جديدة لتحقيق الربح للرأسماليين العابرين للحدود الوطنية الذين يسعون
إلى فرص مستمرة لإعادة استثمار كميات هائلة من النقد التي تراكمت لديهم بشكل مربح.
فالحروب توفر
حافزا اقتصاديا بالغ الأهمية، فقد نجحت تاريخيا في انتشال النظام الرأسمالي من
أزمات التراكم، في حين تعمل على صرف الانتباه عن التوترات السياسية ومشاكل الشرعية.
وقد استغرق الأمر الحرب العالمية الثانية لرفع الرأسمالية العالمية من الكساد
الأعظم، كما أضفت الحرب الباردة الشرعية على نصف قرن من الميزانيات العسكرية
المتوسعة، وساعدت حربا العراق وأفغانستان، الأطول في التاريخ، في الحفاظ على
الاقتصاد متعثرا في مواجهة الركود المزمن في العقدين الأولين من القرن العشرين.
ومن الحماسة
المناهضة للشيوعية في الحرب الباردة، إلى "الحرب على الإرهاب"، ثم ما
يسمى بالحرب الباردة الجديدة، والآن الغزو الروسي لأوكرانيا، كان على النخبة
العابرة للحدود الوطنية، بقيادة واشنطن، أن تستحضر عدوا تلو الآخر لإضفاء الشرعية
على التراكم العسكري وتحويل أزمات شرعية الدولة والهيمنة الرأسمالية نحو أعداء
خارجيين وتهديدات مفتعلة، بحيث تضاعفت أرباح المجمع الصناعي العسكري أربع مرات بعد
احداث 11 أيلول/ سبتمبر.
سياسات ترامب الكارثية في الشرق الأوسط إبان ولايته الأولى بتصفية القضية الفلسطينية وتقويض حل الدولتين؛ شجعت سياسات اليمين الصهيوني الاستيطانية وفاقمت من العنصرية، ودفعت نحو أطروحة حسم الصراع عبر آليات الإبادة والضم والتهجير. فلم تكن عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي شنتها المقاومة الفلسطينية سوى استجابة منطقية لحرب تصفية القضية الفلسطينية التي بدأها ترامب وسار على نهجه بايدن الذي لم يستوعب خطورة الأمر لطبيعته الصهيونية
خلاصة القول أن
منطق الحرب الدائمة الترامبي يؤكد جوهر النظام السياسي الأمريكي الذي يستند إلى
رؤية إمبريالية تقوم على رأسمالية تستند إلى ديمومة الحرب، لكن تصورات ترامب عن
الحرب تعني عدم دخول الولايات المتحدة في حروب مباشرة، وخلق الظروف والأسباب
والشروط الكافية لاشتعالها، ثم التدخل لحصد فوائدها وفرض مزيد من الهيمنة والنفوذ
والسيطرة بكلف زهيدة، وتشغيل المجمع الصناعي العسكري، وهي سياسة تنذر باشتعال مزيد
من الحروب، والدخول في سيناريوهات كارثية تؤسس لنشوب حروب إقليمية والذهاب نحو حرب
عالمية.
فسياسات ترامب
الكارثية في الشرق الأوسط إبان ولايته الأولى بتصفية القضية الفلسطينية وتقويض حل
الدولتين؛ شجعت سياسات اليمين الصهيوني الاستيطانية وفاقمت من العنصرية، ودفعت نحو
أطروحة حسم الصراع عبر آليات الإبادة والضم والتهجير. فلم تكن عملية "طوفان
الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي شنتها المقاومة
الفلسطينية سوى استجابة منطقية لحرب تصفية القضية الفلسطينية التي بدأها ترامب
وسار على نهجه بايدن الذي لم يستوعب خطورة الأمر لطبيعته الصهيونية، وانخرط في حرب
الإبادة في غزة ثم لبنان وأسس لحرب إقليمية مع إيران، وهو ما دفع المستعمرة
الاستيطانية لمزيد التطرف بتصفية القضية الفلسطينية. وهذ ما ظهر في البرلمان
الإسرائيلي، عنما صوت الكنيست بإجماع أعضاء الكنيست اليهود الإسرائيليين على منع
حل الدولتين، وقام بإقرار تشريع وقانون يحظر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل
اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وكل ذلك لم يكن ممكنا دون سياسة ترامب التي أسست
لحرب الإبادة الصهيونية.
وفي الوقت الذي
يزعم فيه ترامب أنه سوف ينهي الحرب في الشرق الأوسط، فإن المنطق الترامبي يؤسس
لحرب دائمة. فالشعب الفلسطيني لن يكف عن المقاومة، وإيران لن تسمح لإسرائيل بتشكيل
الشرق الأوسط على هوى ترامب، ولذلك فإن خطر نشوب حرب إقليمية بات وشيكا، كما أن الانهيار
نحو حرب عالمية بالصدام مع الصين أصبح أقرب من أي وقت مضى، فدونالد ترامب يخلق
الأسباب الكافية للحروب الدائمة.
x.com/hasanabuhanya