أزمات تلو الأخرى تعيشها
مصر في ظل إصرار النظام الحاكم لأكثر من 11 عاما على سياسات الإنفاق، على مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية؛ مع استمرار اللجوء للاقتراض الداخلي والخارجي، ما أدى لتفجّر أزمات توصف بكونها "هيكلية خطيرة" تكاد تعصف بالبلد العربي الإفريقي الأكثر سكانا، وصاحب الاقتصاد المصنف ثانيا في القارة السمراء.
آخر الأنباء التي تشير لتأزم وضع الاقتصاد المصري، جاءت الأحد الماضي، على لسان مسؤول حكومي تحدث لـ"
الشرق مع بلومبيرغ"، مؤكدا أن "
الحكومة المصرية تواجه فجوة تمويلية تُقدر بنحو 10 مليارات دولار في السنة المالية الحالية (2024-2025)، ما يثير التساؤل حول وسائل سد تلك الفجوة".
"عودة لليورو بوندز"
وبحسب المسؤول الحكومي، فإنه من وسائل تقليل الفجوة التمويلية التي تنتهجها القاهرة، هي العودة إلى إصدار صكوك وسندات، دولية وبيع ديون دولارية، أو "يورو بوندز"، وذلك لأول مرة منذ أواخر عام 2021، حينما باعت حكومة القاهرة سندات مقوّمة بالدولار بقيمة 6.75 مليار دولار، في الشتاء والخريف.
وتدرس حكومة رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، بيع ديون خارجية بحوالي 3 مليارات دولار على شرائح مختلفة بالسنة المالية المنتهية في حزيران/ يونيو 2025؛ وذلك وفقا بما صرّح به وزير المالية، أحمد كجوك، في العاصمة البريطانية، لندن، الأسبوع الماضي، فيما جرى تداول السندات المصرية المقومة بالدولار المستحقة في 2047 بأكثر من 80 في المئة من قيمتها الاسمية، الجمعة الماضية.
"خيار الطروحات"
وبالتزامن مع خيار إصدار صكوك وسندات دولية وبيع ديون دولارية، عاد بشكل لافت الحديث الحكومي في القاهرة، عن طروحات جديدة، لحصص حكومية في بنكين، وأخرى في شركتي اتصالات وغاز، إلى جانب طرح أراضي ومناطق ساحلية ذات قيمة استراتيجية، إما أمام المستثمرين الأجانب والعرب والمصريين وإما بالبورصة المحلية، بهدف جمع 2.5 مليار دولار بحلول حزيران/ يونيو 2025.
وهي الخطوات التي يواصلها النظام الحالي في إطار وثيقة ملكية الدولة الصادرة في 13 حزيران/ يونيو 2022، والقاضية بتخارج الحكومة من أنشطة واستثمارات لصالح القطاع الخاص، والتي يتابعها بدقة صندوق النقد الدولي، للتأكد من مدى تنفيذ القاهرة تعهداتها في إطار قرض الصندوق البالغ 8 مليارات دولار لمصر، والذي تحل مراجعته الرابعة، الشهر المقبل.
وفي أول صفقة بيع حكومية كبرى منذ التعويم الأخير للجنيه المصري الذي هبط بقيمة الجنيه بنحو 40 في المئة، في آذار/ مارس الماضي، أعلنت الحكومة المصرية السبت، عن نيتها بيع آخر حصصها والمقدرة بـ20 في المئة من "بنك الإسكندرية" (تأسس عام 1957) إلى بنك "إنتيسا سان باولو" الإيطالي، الذي يمتلك نسبة 80 في المئة من حصص البنك بعد شرائه أغلب حصصه عام 2007 في عهد الرئيس، حسني مبارك.
كذلك، جرى الأحد الماضي، الإعلان عن طرح حصة تتراوح بين 30 و45 في المئة من "المصرف المتحد"، المملوك للبنك المركزي المصري، بالبورصة المصرية خلال الربع الأول من 2025، وذلك عوضا عن البيع لمستثمر استراتيجي لتنشيط التداولات بالسوق، وهو القرار الذي يأتي بعد سنوات من تعثر صفقة بيعه لصندوق الاستثمارات العامة السعودي في 2022.
و"المصرف المتحد"، الذي تأسس عام 2006، ويمتلك 68 فرعا على مستوى البلاد، وأكثر من 200 جهاز صراف آلي، له مكانة قوية في القطاع المصرفي المحلي لتنوع منتجاته وقاعدة عملائه التي تشمل الأفراد والشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، كما شهدت أصول المصرف نموا من 72 مليار جنيه في 2021 إلى 106 مليارات جنيه في حزيران/ يونيو 2024.
أيضا تسعى الحكومة المصرية لبيع 10 في المئة من حصتها في شركة المصرية للاتصالات التي تملك 70 في المئة من أسهمها، وفقا لتأكيد مصدر حكومي لنشرة "إنتربرايز" الاقتصادية، فيما كانت الحكومة قد أضافت إلى برنامج الطروحات الحكومية العام الماضي، الشركة التي حققت نموا قدره 35 في المئة خلال النصف الأول من 2024 ليصل إلى 38 مليار جنيه.
كما أن "الصندوق السيادي السعودي" يدرس بجدية فرص الاستحواذ على حصة من شركة "غاز مصر" التي تأسست عام 1983، ضمن خططه التوسعية المرتقبة في السوق المحلية، بحسب قول مصدر لموقع "ا
لمال" الاقتصادي، الاثنين،
وتمتلك الشركة القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس" 84 في المئة تقريبا من "غاز مصر"، بينما النسبة الأخرى أسهم حرة التداول.
اظهار أخبار متعلقة
"على طريقة رأس الحكمة"
والخميس الماضي، أعلن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، عزم مصر طرح من 4 إلى 5 مناطق كبيرة على البحر الأحمر للاستثمار وتطوير مشاريع عليها، أسوة بصفقة "رأس بناس" التي جرى الإعلان عنها مؤخرا وأثارت الجدل لأهميتها الاستراتيجية والأمنية والسياحية والبيئية.
وخلال زيارة قام بها مدبولي، الأسبوع الماضي، أعلنت السعودية عن ضخ استثمارات بقيمة 5 مليارات دولار في السوق المصري، مع تحويل ودائعها البالغة في البنك المركزي المصري أكثر من 10 مليارات دولار إلى استثمارات.
وعلى غرار صفقة "رأس الحكمة" التي حازتها الإمارات في ساحل مصر الشمالي الغربي، مقابل 35 مليار دولار في آذار/ مارس الماضي، تبدي الرياض اهتماما بمنطقة "رأس جميلة"، الساحلية في جنوب سيناء.
وبلغت حصيلة مصر من طرح 17 شركة على المستثمرين منذ آذار/ مارس 2022، نحو 5.7 مليار دولار، بحسب مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري.
أهم الشركات كانت: "أبوظبي التنموية القابضة" (ADQ) حيث استحوذت على 8 شركات مقابل نحو 2.6 مليار دولار، فيما اشترى صندوق الاستثمارات العامة السعودي 4 شركات مقابل 1.3 مليار دولار، و"غلوبال" للاستثمار الإماراتية شركة واحدة بـ625 مليون دولار.
"حصر الأصول"
وفي سياق سياسة بيع الأصول، تواصل حكومة رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، حصر جميع الأصول غير المستغلة داخل 27 محافظة، وحصر جميع الشركات المملوكة للدولة بكل قطاعاتها، وذلك في إطار تنفيذ وثيقة "سياسة ملكية الدولة"، وتنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي بتخفيف حصص الدولة بجميع القطاعات.
الخبر الأبرز في هذا الإطار، جاء 17 أيلول/ سبتمبر الجاري، حين أعلن مجلس الوزراء المصري، حصرا، بكامل الشركات والأصول التابعة للدولة حتى آب/ أغسطس 2024.
وأكد أن عدد الشركات المملوكة للدولة 709 شركات موزعة على 18 قطاعا، تمتلكها 33 جهة حكومية، فيما كشف أن 54 بالمئة من الشركات المملوكة للدولة تحقق أرباحا ونسبة 42.2 في المئة منها تحقق خسائر.
ومنتصف الشهر الماضي، كشفت وزيرة التنمية المحلية، منال عوض، عن الانتهاء من برنامج شامل لحصر جميع الأصول غير المستغلة داخل 27 محافظة، لبدء الترويج لها عبر خريطة مصر الاستثمارية واستقطاب مستثمرين جدد سواء محليين أو أجانب، بالتنسيق مع هيئة الاستثمار وصندوق مصر السيادي.
وعلى الجانب الآخر، لم تعلن أية جهة عن حصر الأصول والأراضي غير المستغلة التابعة للمؤسسة العسكرية المصرية، ولا حصرا بعدد الشركات التابعة للجيش، وتصنيفاتها وما إذا كانت رابحة أو تحقق خسائر.
وهي الخطوات التي تدعو للتساؤل حول قيمة تلك الوسائل التي تتبعها الحكومة المصرية لسد فجوة مالية بقيمة 10 مليارات دولار في العام المالي الحالي، ومدى نجاعة تلك الحلول وعدم إضرارها بالاقتصاد الوطني وزيادة أزمة مصر المالية، وبشأن ما إذا كان لم يعد أمام الحكومة المصرية حولا إلا بطرح الأصول وإصدار السندات وبيع الديون، والحلول الأمثل للخروج من الأزمة أو وقف تصاعدها.
"ضيق الحيز المتاح للمناورة"
وفي قراءته الاقتصادية، الخبير الاقتصادي والمستشار الأممي السابق، إبراهيم نوار: "للأسف ليس أمام الحكومة إلا سد الفجوة المالية عن طريق بيع الأصول، وطرح أوراق مالية للبيع، إضافة إلى الاقتراض من جديد".
نوار، وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "نظرا لضيق الحيز المتاح للمناورة، فإن فشل الحكومة في جذب تدفقات كافية لسد فجوة التمويل يفرض عليها تخفيض الإنفاق العام، ووقف تمويل بعض المشروعات المقررة في السنة المالية الحالية، كليا أو جزئيا".
وأوضح أن "تخفيض سعر الفائدة على الدولار، والتدفقات المتوقعة من دول الخليج، وقرض صندوق النقد الدولي تسمح بتعزيز قدرة الحكومة على طرح سندات وصكوك متوسطة وطويلة الأجل في السوق المالية، وذلك بعد توقف استمر لعدة سنوات".
ويرى أنه "مع ذلك فإن إقبال المستثمرين على شراء الأوراق المالية التقديرية يتوقف على مدى استقرار السياسة النقدية، ومرونة سعر الصرف، وشفافية السياسة الاقتصادية".
ويعتقد أن "ما يزيد من صعوبة الموقف حاليا هو أن الحاجة إلى تمويل واردات الطاقة تضغط بشدة على الموارد المتاحة، وإذا عجزت الحكومة عن توفير التمويل اللازم، فإن النشاط الاقتصادي سيتأثر سلبا، خصوصا في قطاعي الطاقة والصناعة".
اظهار أخبار متعلقة
"حلول ناجعة في تلك الحالات"
وفي رؤيته قال الباحث الاقتصادي المصري، محمد نصر الحويطي، إن "هذه الحلول أراها حلولا ناجعة إذا تم الاستفادة من هذه الأموال التي بيعت بها الأصول لسد الفجوة التمويلية، أو إذا تمت إدارة أو استخدام تلك الأموال بشكل سليم يعود في النهاية على الموازنة العامة للدولة وخفض العجز".
الكاتب والصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي، أضاف في حديثه لـ"عربي21"، أنه "إذا استخدمت هذه الأموال في مشروعات إنتاجية تنموية عوضت التناقص الواضح في إيرادات قناة السويس والإيرادات الأخرى الدولارية، ففي هذه الحالة ستكون هذه الحلول ناجعة".
ويعتقد الحويطي، أنه "ليس لدى الدولة المصرية حلولا أخرى سوى إصدار السندات المقومة بالدولار أو بيع الأصول"، مبينا أن "هذه هي الحلول المؤقتة المتاحة الآن أو التي تملكها الدولة في الوقت الحالي، وليس في وجهة نظرى هناك حلول أخرى".
ولفت إلى أن حجم الأزمة متمثل في "التراجع الواضح في إيرادات قناة السويس، الهدوء إلى حد كبير في عوائد الصادرات، وأيضا بعوائد السياحة"، مشيرا إلى أن "المسألة تتمثل في وجود فجوة تمويلية، يقابلها زيادة في الإنفاق الحكومي".
ودعا إلى "ضرورة تحجيم الإنفاق الحكومي بشكل كبير، وتحجيم نسب ونوعية الواردات، وعدم استغلال الدولار في أي شيء سوى الضروريات"، مطالبا بتطبيق ما يُعرف بـ"التشديد النقدي"، مبينا أن "الكثير من الدول تتبعه لحل أزماتها وفجوات التمويل".
ومضى في نهاية حديثه يؤكد أنه "لا يوجد أي بديل سوى إصدار السندات وبيع الأصول في الوقت الحالي، خاصة أن الودائع الخليجية بالبنك المركزي تآكلت الفترة الماضية التي كان فيها عجز شديد في الدولار، ولذا فليس هناك بديل سوى تعويض ذلك ببيع الأصول لبعض دول الخليج وصناديقها السيادية الإماراتي والسعودي، كما حدث في صفقة رأس الحكمة".
اظهار أخبار متعلقة
"غلاء وغضب واحتجاجات"
وفي مقابل عمليات البيع للأصول العامة والحكومية، يعاني المصريون من زيادات متتالية تقرها الحكومة على أسعار الكثير من الخدمات والسلع، بينها الوقود الذي جرى رفعه مرتان في آذار/ مارس، وتموز/ يوليو الماضيين، بنسب تراوحت بين 10 و15 في المئة، وذلك إلى جانب الخبز، وأسعار تذاكر وسائل النقل من قطارات ومترو الأنفاق، والإنترنت الأرضي وخدمات الهاتف المحمول، ثم الكهرباء، ومواد البناء كالأسمنت والحديد، والأدوية.
وقررت الحكومة المصرية، ابتداء من الأربعاء الماضي، رفع أسعار أنابيب البوتاغاز المنزلي والتجاري، بمعدل 50 في المئة و33.3 في المئة على التوالي، مع رفع أسعار الغاز الطبيعي المورد لمحطات الكهرباء من 3 دولارات للمليون وحدة حرارية إلى 4 دولارات، بجانب رفع أسعار المازوت لمحطات الكهرباء بنسبة 160 في المئة من 2500 إلى 6500 جنيه (133.8 دولار).
أيضا، رفعت الحكومة أسعار غاز الصب غير شامل نولون النقل إلى 12 ألف جنيه للطن (247 دولارا)، مع زيادة سعر الغاز الموردة لمصانع الطوب من 110 جنيهات للمليون وحدة حرارية إلى 170 جنيها (3.4 دولار).
وإزاء الأوضاع الصعبة، تتزايد بشكل مطرد حالة الغضب بين عمال مصر، المطالبين بتحسين أحوالهم المعيشية وأوضاعهم المالية، وذلك عبر وقفات احتجاجية واضرابات، أهمها لعمالات "وبريات سمنود" بمحافظة الغربية، وعمال شركات "رؤية للمقاولات"، و"النصر للغزل والنسيج والتريكو (شوربجي)، و"فينيسيا للسيراميك"، وغيرها.