تساءل الكاتب البريطاني جوناثان كوك،
عن سبب عدم إثارة ضجة بشأن ما سبق أن نشرته صحيفة "جويش كرونيكل"
اليهودية، التي طالتها فضيحة مؤخرا بعد نشر تقارير كاذبة تستند إلى وثائق مفبركة
منسوبة إلى حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "
حماس".
وفي مقاله المنشور في صحيفة "
ميدل
إيست آي"، قال كوك إنه لم ينزعج أحد في السلطة بسبب حبل الكذب الذي كان
يستعرضه الإسرائيليون وهم عاكفون على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، بل
مضت الجريمة دون أن يعلق عليها أحد، ودون أن تفضي إلى أي تحقيقات ذات بال من قبل
وسائل الإعلام العالمية.
وتساءل
الكاتب عمن يقف خلف تقارير الصحيفة المزورة، ومن يقوم بإدارة هذه التسريبات في
وسائل الإعلام، مشيرا إلى أن بعضها يخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين
نتنياهو، الذي يريد أن يبقى هو الطرف الأقوى في دولة
الاحتلال.
وتاليا
نص المقال كاملا كما ترجمته عربي21:
وجدت
الصحيفة اليهودية الأبرز في
بريطانيا نفسها تُقحم في المركز من عاصفة محرجة طال
انتظارها، وذلك بسبب ضلوعها في مناورات مريبة تمارسها مجموعات اللوبي المناصر
لإسرائيل.
يثير
ذلك تساؤلات حول الدرجة التي تتواطأ فيها بعض وسائل الإعلام البريطانية – لا
شعورياً أو عن سبق إصرار وترصد – في حملات التضليل الإسرائيلية.
يوم
الأحد، فقدت صحيفة جويش كرونيك، أو جيه سي كما هي مشهورة به، أربعة من كبار كتاب
الأعمدة فيها، وذلك بعد الكشف عن أن الصحيفة نشرت تقريراً يعتمد على وثيقة مزورة
تتعلق بحرب إسرائيل على غزة. فقد سارع على أثر ذلك كل من جوناثان فريدلاند، وديفيد
آرانوفيتش، وهادلي فريمان وديفيد باديل إلى الاستقالة من الصحيفة.
والذي
تبين هو أن الصحيفة أخفقت، بشكل واضح، في القيام بأدنى إجراءات التدقيق في شخص
إيلون بيري، الصحفي الإسرائيلي الحر المقيم في بريطانيا، والذي نشرت له الصحيفة
تسعة تقارير منذ أن بدأت حرب إسرائيل على غزة قبل ما يقرب من سنة. وقد قامت
الصحيفة الآن بحذف جميع هذه التقارير من موقعها على الإنترنيت.
كشفت
تحقيقات أجرتها وسائل إعلام إسرائيلية عن أن السيرة الذاتية لهذا الصحفي، بيري،
والتي تتضمن مزاعم بأنه عمل أستاذاً في جامعة تل أبيب، وبأنه عضو سابق في نخبة
المغاوير، ويعمل في الصحافة منذ وقت طويل، كانت مجرد أكاذيب مفضوحة. ويبدو أن
تجربته الصحفية الوحيدة لا تتجاوز التقارير التسعة التي نشرتها له جويش كرونيكل.
كما
أخفقت جويش كرونيكل في التحقق قبل النشر من صحة ما أورده في مقالة أخيرة له، اقتبس
فيها من وثيقة منسوبة لحماس من المفترض أنها كانت في قبضة المخابرات الإسرائيلية.
إلا أن الجيش الإسرائيلي يقول إنه لم يسبق له أن شاهد مثل هذه الوثيقة.
ومع
ذلك جاءت الوثيقة المزورة لتعزز بعناية الرواية التي ما لبث رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى بكل ما أوتي من إمكانيات للترويج لها – سردية
تسمح له بتفادي الدخول في مفاوضات مع حماس من شأنها أن تنهي المذابح التي يتعرض
لها عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة. من الجدير بالذكر أن محكمة العدل
الدولية، أعلى محكمة في العالم، كانت قد حكمت بأن أفعال إسرائيل هناك يمكن أن ترقى
إلى الإبادة الجماعية.
يتعرض
نتنياهو لضغط هائل – سواء من قبل قيادات الجيش الإسرائيلي أو من قبل قطاعات كبيرة
من الجمهور الإسرائيلي – كي يتفاوض على التوصل إلى وقف لإطلاق النار يتسنى بعده
إطلاق سراح العشرات من الرهائن الذين ما زالوا في قبضة حماس داخل غزة. لم تزل
عائلات الرهائن تنظم تظاهرات ضخمة، وبشكل متزايد، في إسرائيل للاحتجاج ضد الحكومة.
افتراءات
جامحة
بحسب
التقرير الذي أعده بيري ونشرته جويش كرونيكل، كان زعيم حماس، يحيى
السنوار يخطط،
تحت غطاء المفاوضات، لتهريب نفسه وتهريب آخرين من قيادات حماس وتهريب الرهائن
الإسرائيليين إلى خارج غزة عبر الحدود مع مصر، حيث سيتم من هناك تهريبهم إلى
إيران.
لا ريب
في أنه أسعد نتنياهو أن يعكس التقرير مزاعمه هو حول ما كانت تنوي فعله حركة حماس.
يقال
إنه بعد أيام قليلة من نشر جويش كرونيكل للتقرير، اجتمعت زوجة نتنياهو، سارة،
بعائلات الرهائن، وأكدت، وهي تشير إلى ما ورد في التقرير، أن نتنياهو ليس بإمكانه
التنازل عن موقفه الصلب في المفاوضات.
إلا أن
مصداقية تقرير جويش كرونيكل سرعان ما تهاوت بمجرد إخضاعه لأبسط متطلبات التدقيق.
حسبما
ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، وصفت مصادر أجهزة المخابرات والجيش في إسرائيل
الرواية بأنها لا تزيد عن كونها "افتراءات جامحة" معتبرة أنها
"أكاذيب مائة بالمائة." كما أن دانيال هاغاري، الناطق العسكري
الإسرائيلي، قال إن الحكاية عارية تماماً عن الصحة.
كما
سبقت الإشارة إليه في مقالات سابقة، لا ريب أن المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم
هاغاري، ليسوا أنفسهم غرباء عن عمليات التضليل والخداع، وخاصة أثناء الحرب
المستمرة على غزة منذ ما يقرب من سنة.
اظهار أخبار متعلقة
يبدو أن السبب من وراء انكشاف هذا الخداع بالذات، وبهذه
السرعة، هو النزاع الجاري منذ أسابيع بين نتنياهو وكبار قادة الجيش حول رفض رئيس
الوزراء التفاوض من أجل إطلاق سراح الرهائن والتوصل إلى وقف لإطلاق النار.
يقال إن الجنرالات ما فتئوا يزدادون حنقاً بسبب عناد
نتنياهو وإصراره على توسيع الحرب في غزة محولاً إياها إلى مواجهة إقليمية خطيرة،
وما ذلك إلا من أجل إنقاذ نفسه.
ويعتقدون أنه يقدم مصالحه الضيقة والأنانية على الأمن
القومي، وذلك من خلال السعي للبقاء في السلطة هو وائتلافه اليميني المتطرف، حتى
يؤخر مثوله أمام المحكمة بتهم الفساد.
زادت هذا الأسبوع بشكل كبير احتمالات نشوب حرب إقليمية
عندما تفجرت أجهزة إلكترونية عادية في أرجاء لبنان، مما أسفر عن مقتل 30 شخصاً
وجرح آلاف آخرين. لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن هذا العمل، ولكن لا يساور أحد أدنى
شك في أنها تقف من وراء الهجوم.
ولذلك لا يستبعد أن يكون الجيش الإسرائيلي قد رأى فرصة
سانحة للانتقام وإحراج نتنياهو من خلال الكشف عن أن التقرير الذي نشرته جويش
كرونيكل مجرد أخبار كاذبة.
معلومات إسرائيلية مضللة
كما سخرت المصادر العسكرية من تقرير سابق آخر نشرته
الصحيفة للمدعو بيري، ووصفته المصادر بأنه "هراء"، حيث ادعى فيه أن
كثيراً من الرهائن الذين مازالوا على قيد الحياة يُستخدمون من قبل حركة حماس
دروعاً بشرية لحماية السنوار.
لا يقتصر الترويج للمعلومات المضللة التي تبثها إسرائيل
على صحيفة جويش كرونيكل، بل انتقد الجيش الإسرائيلي تقريراً حول حماس نشرته هذا
الشهر صحيفة بيلد الألمانية، والتي زعمت أن وثيقة أخرى لحركة حماس – من المفترض
أنها وجدت في جهاز كومبيوتر يعود للسنوار – تثبت أن الحركة كانت تخوض التفاوض بسوء
نية وأنها "تتلاعب بالمجتمع الدولي".
مرة أخرى يقصد من تلك الحكاية الملفقة خدمة نتنياهو،
وذلك لأنها تفيد بأن أي جهود تبذل لضمان إطلاق سراح الرهائن عبر المفاوضات إنما هي
جهود عبثية غير مجدية.
رد محرر صحيفة جويش كرونيكل، جيك واليس سايمونز، على
سلسلة الاستقالات التي شهدتها صحيفته بتوجيه اللوم إلى بيري، قائلاً: "من
الواضح أن التعرض للخداع من قبل صحفي ما هو أسوأ كابوس يمكن أن يعاني منه أي مسؤول
عن تحرير صحيفة".
ولكن القضية لا تتعلق بقيام بيري بارتكاب عملية خداع
معقدة بحق صحيفة جويش كرونيكل، وإنما تتعلق بإخفاق الصحيفة، كما هو واضح، في
القيام بأبسط عمليات التدقيق والتمحيص للتأكد من أن تقاريره الحصرية كانت تمت
للواقع بصلة.
وأقل ما كان ينبغي أن تفعله الصحيفة هو الاتصال هاتفياً
بمكتب الناطق العسكري الإسرائيلي. كان مثل هذا الإجراء سيكفي على الأقل لاستبعاد
آخر مقالتين نشرهما بيري في الصحيفة.
اظهار أخبار متعلقة
يبدو، وبشكل مريب، أن صحيفة جويش كرونيكل، التي ما فتئت
تزداد صقورية على مدى العقدين الماضيين في التعامل مع القضايا التي تتعلق
بإسرائيل، لم تكن تعبأ بتمحيص الحقيقة فيما تنشره من تقارير طالما رأت أنها تتناسب
تماماً مع السردية المفضلة لديها.
ولكن ثمة ما هو أسوأ من مجرد الإخفاق المهني لدى صحيفة
جويش كرونيكل. فثمة شكوك بأن مكتب نتنياهو هو الذي يقف من وراء التقارير الملفقة،
وأنه قصد استخدامها كجزء من حملته للتأثير على الرأي العام. وهذا هو بالضبط ما خلص
إليه العديد من كبار المحللين الإسرائيليين.
أحد هؤلاء المحللين هو شلومو إلدار، الذي كتب عبر منصة
إكس (تويتر سابقاً) يقول: "كان جلياً بالنسبة لي أن هذا تسريب صادر عن مكتب
رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يستخدم الخداع ويتلاعب بالصحافة الأجنبية من أجل
الإمعان في المزيد من تمزيق المجتمع الإسرائيلي المنقسم أصلاً إنقاذاً لنتنياهو من
وطأة الاحتجاجات التي تزداد كثافة".
انعدام التدقيق
والسؤال هو كالآتي: هل غدت صحيفة جويش كرونيكل معتادة
على النشر كأخبار كل ما يردها من بيانات صحفية صادرة عن مكتب نتنياهو لدرجة أنها
لم تعد تعبأ بما إذا كانت المعلومات الواردة في هذه البيانات صحيحة أم لا؟
وإذا ما أخذنا بالاعتبار انعدام التدقيق من قبل منصات
الإعلام البريطانية الأخرى حول مدى صحة ما تنشره صحيفة جويش كرونيكل من تقارير،
فهل غدت الصحيفة قانعة بشكل متزايد، مطمئنة وواثقة بأن بإمكانها أن تتقيأ
المعلومات المضللة الواردة من الحكومة الإسرائيلية دون أن يفتضح أمرها؟
من غير المحتمل أننا يوماً سنعرف الإجابة على هذا
السؤال. ولكن من المؤكد أن ثمة آثاراً مقلقة للغاية، لدرجة أن أربعة من كبار كتاب
الأعمدة في الصحيفة شعروا بأن البقاء فيها سيلحق أضراراً فادحة بسمعتهم.
فهذا فريدلاند، الذي يكتب عموداً في صحيفة الغارديان
كذلك، قد كتب خطاباً وجهه إلى واليس سايمونز عبر مواقع التواصل الاجتماعي لاحظ فيه
ما يلي: "كثيراً جداً ما تبدو التقارير التي تنشرها صحيفة جويش كرونيكل كما
لو كانت الصحيفة أداة حزبية عقائدية، فأحكامها سياسية بدلاً من أن تكون
صحفية".
من الأمثلة على ذلك تغريدة (تم فيما بعد حذفها) صادرة عن
واليس سايمونز في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وكانت إسرائيل حينذاك قد فتكت
بالآلاف من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين. فقد كتب محرر صحيفة جويش كرونيكل
معلقاً على مقطع فيديو يصور انفجاراً هائلاً قضى نحبه فيه عدد لا يحصى من
الفلسطينيين في مدينة غزة قائلاً: "إلى الأمام نحو النصر".
من المؤكد أن فريدلاند كان محقاً فيما ذهب إليه من أن
صحيفة جويش كرونيكل لطالما روجت لأجندة حزبية جداً، بل وأجندة متعصبة جداً في
ولائها ونصرتها لإسرائيل، أجندة ساهمت بلا ريب في خلق أجواء من الرعب في أوساط
اليهود البريطانيين، وجعلتهم أكثر استعداداً لتقبل سياسات إسرائيل التي تعتمد
الإبادة الجماعية، والتسامح معها.
انحطاط العمل الصحفي
إذن، لو كان العمل الصحفي الحزبي الذي تمارسه صحيفة جويش
كرونيكل قد بدأ قبل وقت طويل من الكشف عن الفضيحة الأخيرة، فلماذا لم يجد فريدلاند
في ذلك محفزاً على الاستقالة حتى الآن؟
لم أزل أنا وغيري نلاحظ منذ زمن وقوع صحيفة جويش كرونيكل
في مخالفات فاضحة للقانون ولأخلاقيات العمل الإعلامي.
ولا أدل على ذلك من أن منظمة إبسو (المنظمة المستقلة
للمعايير الصحفية)، الهيئة التنظيمية الضعيفة التي أوجدتها وتمولها المؤسسات
الإعلامية الكبرى المملوكة من قبل الأثرياء من أصحاب المليارات، وجدت مراراً
وتكراراً خلال السنوات الست الماضية أن صحيفة جويش كرونيكل مذنبة بارتكاب انتهاكات
لأحكام ممارسة المهنة الصحفية.
طبقاً للبحث الذي أجراه الصحفي والأكاديمي برايان
كاثكارت، على مدى خمس سنين وصولاً إلى عام 2023، انتهكت الصحيفة أحكام العمل
الإعلامي واحداً وأربعين مرة، وهو أمر مذهل حقاً. كما أن صحيفة جويش كرونيكل خسرت،
أو أجبرت على الدخول في تسوية في، ما لا يقل عن أربع قضايا قذف وتشهير.
في معرض تحليله للنتائج التي توصل إليها، وصف كاثكارت
هذا العدد الضخم من الانتهاكات بأنه "أكبر بكثير مما تحتمله" صحيفة
أسبوعية صغيرة الحجم. كما لاحظ كذلك أن فيض الانتهاكات الخطيرة التي كشفت منظمة
إبسو عن ارتكاب صحيفة جويش كرونيكل لها ينبغي أن ينظر إليه ضمن سياق ما يعرف من سجل
سيء للمنظمة الرقابية في التعامل مع الشكاوى التي تصلها من الجمهور، إذ أنها تعرض
عن النظر في 99 بالمائة من الشكاوى.
اظهار أخبار متعلقة
والمثير في الأمر أنه على الرغم من الانتهاكات غير
المسبوقة التي ارتكبتها صحيفة جويش كرونيكل لمعايير العمل الإعلامي، رفضت منظمة
إبسو فتح تحقيق في الأمر أو ممارسة صلاحياتها في فرض غرامات على الصحيفة.
ولذلك ما لبثت الصحيفة أن شنت حملة من الهجمات على من
بادرت بالتشهير بهم، فكتبت تقول: "في أجواء من معاداة السامية المتصاعدة، لن
نخضع أبداً أمام محاولات التنمر علينا من أجل إسكاتنا".
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال ناطق باسم منظمة إبسو
إن المنظمة "تنظر باهتمام في التطورات الحادثة داخل صحيفة جويش
كرونيكل." وأضاف: "لا يوجد لدينا ما نقوله سوى ذلك في هذا الوقت".
كلب الهجوم الرئيسي
ثمة أسباب من وراء المدى الكبير من التسامح الذي منحته
منظمة إبسو لصحيفة جويش كرونيكل.
فكما لاحظ كاثكارت، لو أن "الجهة المنظمة"
بادرت بالتحقيق في أداء صحيفة جويش كرونيكل وإخفاقاتها الصحفية، لكان من الصعب
التوقف عند ذلك الحد. إذ أن المنصات الأخرى، مثل تلك المملوكة من قبل روبرت
ميردوخ، سوف يتوجب أن تخضع للتحقيق كذلك.
يقول النقاد إن الغاية الأصلية من إنشاء منظمة إبسو قبل
ما يقرب من عقد من الزمن هو قطع الطريق على أي تنظيم ذي معنى لوسائل الإعلام، وذلك
بعد تحقيق ليفسون في الانتهاكات التي تمارسها وسائل الإعلام، بما في ذلك فضيحة
اختراق الهواتف والتجسس عليها.
ولكن ثمة سبب آخر من وراء تجاوز منظمة إبسو عن
الانتهاكات المشار إليها، ألا وهو أن صحيفة جويش كرونيكل كانت قد لعبت دوراً
حيوياً في دعم واحدة من أهم حملات التضليل التي مارستها الدولة العميقة في
بريطانيا، وهي الحملة التي حولت زعيم حزب العمال السابق جريمي كوربين إلى شخص غير
قابل للفوز في الانتخابات بسبب حملة التشهير التي شنت ضده وضد أنصاره ملصقة بهم
تهمة معاداة السامية.
والملاحظ هنا أن كثيراً من انتهاكات صحيفة جويش كرونيكل
لمعايير وأحكام العمل الصحفي، وكثيراً من قضايا التشهير التي تمت تسويتها معها،
كان لها علاقة بمزاعم باطلة نشرت إما ضد منظمات التضامن مع فلسطين أو ضد أعضاء في
تيار اليسار داخل حزب العمال. كانت صحيفة جويش كرونيكل تمارس دور كلب الهجوم
الرئيسي ضد كوربين وضد حلفائه، تبث المخاوف في أوساط قطاعات بارزة من المجتمع
اليهودي في بريطانيا. بل لقد بدأت الحملة في وقت مبكر منذ بروز كوربين للوهلة
الأولى كمرشح لمنصب الرئاسة في الحزب.
ما لبثت هذه المخاوف أن تناولتها بقية وسائل الإعلام
المملوكة للشركات الكبرى بالإشارة والتعليق لإثبات أن حزب العمال يتصرف بوقاحة
إزاء ما يعتبره المجتمع اليهودي في بريطانيا مسائل بالغة الحساسية، وبالتالي فإن
لامبالاة تيار اليسار في حزب العمال، حسب هذه الفرضية، بما يعتبر مسائل حساسة من
قبل اليهود، يمكن إيعازه إلى معاداة السامية المستشرية داخل الحزب.
وكلما نفى اليسار بأنه معاد للسامية تمت الإشارة
إلى نفس ذلك النفي باعتباره دليلاً على معاداته للسامية.
جميع كتاب الأعمدة الذين استقالوا من العمل في صحيفة
جويش كرونيكل نهاية الأسبوع ساهموا بشكل فعال في إثارة مناخ سياسي أمكن من خلاله
تصوير زعامة كوربين لحزب العمال على أنها تشكل تهديداً وجودياً لليهود
البريطانيين.
بل لم يتورع ستيفين بولارد، سلف واليس سايمونز كمحرر
لصحيفة جويش كرونيكل، عن التحدث علانية عن الدور الحيوي الذي تمارسه صحيفته ضد
كوربين، فقال: "من المؤكد أنه كانت هناك حاجة للمهام الصحفية التي تقوم بها
جويش كرونيكل، وبشكل خاص فيما يتعلق بالكشف عن معاداة السامية داخل حزب العمال وفي
أماكن أخرى".
بعد عام من ذلك، وبينما كان على وشك مغادرة منصبه كرئيس
للصحيفة، عبر ألان جيكوبس عن الفكرة ذاتها حين قال إن المتبرعين الأثرياء، الذين
بتمويلهم ينقذون الصحيفة ويحافظون على وجودها، "بإمكانهم أن يفخروا بأن
سخاءهم معاً سمح لصحيفة جويش كرونيكل بالبقاء على قيد الحياة ما يكفي لأن تساعد
على تقويض جريمي كوربين وأصدقائه".
التدخل الإسرائيلي
هناك فيض من الأدلة التي تثبت أن المسؤولين الإسرائيليين
كانوا في عهد كوربين كرئيس لحزب العمال يتدخلون في السياسة البريطانية لقطع الطريق
عليه والحيلولة دون وصوله إلى السلطة.
فنظراً لأنه لم يزل منذ وقت طويل منتقداً للاحتلال
الإسرائيلي غير القانوني ومدافعاً عن الحقوق الفلسطينية، كان يُنظر إلى كوربين
باعتباره مصدر تهديد.
ولا أدل على ذلك من حكاية شاي مازوت، المسؤول الإسرائيلي
الذي كان يعمل انطلاقاً من السفارة الإسرائيلية في لندن، والذي صور سراً من قبل
صحفي متخف يعمل لصالح قناة الجزيرة بينما كان ينظم وينسق حملة تشهير ضد كوربين
لتلطيخ سمعته، مستخدماً في ذلك مجموعات لوبي مناصرة لإسرائيل داخل حزب العمال.
على الرغم من الأدلة الدامغة والمدمرة التي أوردها
وثائقي الجزيرة المكون من أربعة أجزاء، إلا أن وسائل الإعلام البريطانية، التي
كانت تساعد بفعالية في نشر مثل ذلك التشهير، تجاهلت تماماً الوثائقي الذي بثته
شبكة الجزيرة في عام 2017.
لعبت صحيفة جويش كرونيكل دوراً حيوياً في كل ذلك، فكانت
رأس حربة الضغوط التي مورست على المؤسسات البريطانية، بما في ذلك حزب العمال،
لتبني تعريف جديد لمصطلح معاداة السامية يخلط بين انتقاد إسرائيل وكراهية اليهود.
كانت إسرائيل في الواقع هي القوة المحركة التي تقف وراء هذا التعريف.
في مواجهة عاصفة من الانتقاد أطلقتها صحيفة جويش كرونيكل
ووسائل الإعلام بشكل عام، وصدرت كذلك من قبل مجموعات اللوبي المناصر لإسرائيل داخل
حزب العمال، سار كوربين برجليه نحو المصيدة التي نصبت له ووقع فيها.
بات مستحيلاً بسبب التعريف الجديد الذي تبناه حزب العمال
المشاركة في أي نشاط ذي معنى يدعم الشعب الفلسطيني دون انتهاك واحد من الأمثلة على
معاداة السامية بحسب ما ورد في تعريف التحالف الدولي لذكرى المحرقة، وهي أمثلة
تتعلق بانتقاد إسرائيل.
على الرغم من هذا التعريف المنحرف، ظلت صحيفة جويش
كرونيكل تشعر بالحاجة إلى الدفع أكثر باتجاه توسيع حملة التشهير – وكان ذلك هو
السبب الرئيسي من وراء قرار منظمة إبسو الذي خلص إلى أن الصحيفة انتهكت أحكام
ممارسة المهنة الصحفية مراراً وتكراراً، وهو كذلك ما أجبرها على تسوية العديد من
قضايا التشهير خلال الأعوام الأخيرة.
حتى موعد نشر هذا التقرير لم تستجب صحيفة جويش كرونيكل
إلى طلب تقدم به موقع ميدل إيست آي للحصول على تعليق منها على ما ورد فيه.
خسائر فادحة
كانت جويش كرونيكل تتكبد خسائر فادحة حتى قبل أن تضطر
لدفع مبالغ ضخمة لسداد فواتير تسوية القضايا القانونية، مما ألجأ ذي كيسلر
فاونداشين إلى إعلان إفلاسها ووضعها قيد التصفية في عام 2020.
منذ ذلك الحين، لم يزل الغموض يكتنف هوية من يملك
الصحيفة. لكن أياً كان المالك، يبدو أنه واسع الثراء.
يتشكل الائتلاف الذي يقوم بدور الواجهة لمن يملكها حقيقة
الآن من مجموعة من الشخصيات العامة التي تشترك فيما بينها بالمعارضة الشديدة
لكوربين.
كان يترأس هذا الائتلاف روبي جيب، خبير العلاقات العامة
السابق في حزب المحافظين والذي يشغل الآن موقع عضو مجلس إدارة البي بي سي المكلف
بالإشراف على المعايير التحريرية.
بدأ كثير من المراقبين الآن، متأخرين، في إثارة مسألة
تضارب المصالح فيما يسند إلى جيب من دور، فهو مقرب جداً من صحيفة جويش كرونيكل ومن
أجندتها الحزبية جداً والمؤيدة لنتنياهو، بينما يشغل منصباً هاماً في توجيه
المعايير التحريرية في البي بي سي، والتي يفترض فيها الحيادية إزاء إسرائيل وغزة.
حتى موعد النشر، لم يرد جيب على طلب توجه به موقع ميدل
إيست آي له للتعليق على ما ورد في هذا التقرير.
يهودي من النوع الخطأ
لم يعبر لا فريدلاند ولا أحد من كتاب الأعمدة الذين
استقالوا نهاية الأسبوع الماضي عن قلقهم من قبل إزاء الإخفاقات التحريرية المنتظمة
لصحيفة جويش كرونيكل، والتي استمرت لسنين طويلة. يبدو لي أنهم لم تكن لديهم مشكلة
مع أي من هذه الإخفاقات، تماماً مثلهم مثل المؤسسة البريطانية التي لم تجد فيها أي
مشكلة.
كان التخلص من كوربين هدفاً مشتركاً في أرجاء طيفين
سياسيين ضيقين داخل القبيلتين الرئيسيتين في مؤسسة الدولة الحاكمة، حزبي المحافظين
والعمال، حيث تبرر الوسائل، أياً كانت هذه الوسائل، الغايات، فيما يبدو.
حتى موعد النشر، لم يرد فريدلاند على طلب تقدم به موقع
ميدل إيست آي له للتعليق على ما ورد في هذا التقرير.
يوم الاثنين، بعد استقالتها من صحيفة جويش كرونيكل،
أعربت الكاتبة هادلي فريمان عن قلقها من أن الصحيفة باتت وسيلة لتمرير أجندة
نتنياهو، وأنها الآن لم تعد تمثل جل المجتمع اليهودي في بريطانيا.
وقالت في مقابلة مع الإذاعة الرابعة في البي بي سي:
"نريد أن يكون لدينا صوت ليبرالي عصري يمثل اليهود في بريطانيا ويعبر عن
مشاعرهم، إلا أن جويش كرونيكل باتت تمثل وجهة نظر عقائدية أكثر مما تمثل وجهة نظر
صحفية بحتة." ومضت تقول: "ليست تلك هي الغاية التي من أجلها انضممت إلى
صحيفة يهودية بريطانية، لكي أمثل وجهة نظر نتنياهو".
وقالت في حديث مع برنامج "اليوم" الذي تبثه
إذاعة البي بي سي: "أرغب بقوة في أن يكون في البلد صحيفة يهودية وطنية تمثل
التيار العريض، وتعكس تعدد وجهات النظر بين اليهود في هذا البلد". وأضافت:
"ليس هذا هو الذي انضممت إلى صحيفة يهودية بريطانية من أجله، لكي أمثل وجهة
نظر نتنياهو".
ولكنها أمضت هي وزملاؤها الآخرون الذين يكتبون في جويش
كرونيكل سنوات وهم يعملون على حرمان عدد ضخم من اليهود اليساريين الذين يدعمون
كوربين نفس ذلك الحق في التعددية، بمن في ذلك مجموعة صوت يهودي من أجل العمال. بل
كانت أصوات هؤلاء تقابل إما بالتجاهل أو بالاعتراض عليها بحكم أنهم يعتبرون يهوداً
من النوع الخطأ.
في عهد خلف كوربين، كير ستارمر، بات أعضاء حزب العمال من
اليساريين اليهود خمس مرات تقريباً أكثر عرضة للخضوع للتحقيق من قبل الحزب بتهمة
معاداة السامية مقارنة بالأعضاء غير اليهود.
لا يبدو أن أياً من كتاب الأعمدة في جويش كرونيكل شعر
بالقلق إزاء هذا النمط من التمييز، أو إزاء الانتهاكات التي تمارس من قبل إدارة
الحزب تطاولاً على حقوق الأعضاء اليهود في التعبير عن وجهات نظرهم.
استمر هذا التوجه على مدى العام المنصرم. فتارة أخرى وجد
"اليهود من النوع الخطأ" أنفسهم يتعرضون للتجاهل والتهميش من قبل وسائل
الإعلام الرئيسية حينما يشاركون بالآلاف في المسيرات الاحتجاجية ضد الإبادة
الجماعية في غزة، أو حينما يساعدون في تنظيم الاحتجاجات داخل الجامعات البريطانية
والأمريكية.
في مقال نشرته لها صحيفة ذي تايمز أوف إسرائيل في شهر
يونيو (حزيران)، أكدت فريمان أن "اليسار التقدمي يكره اليهود." وفاتها
أن تذكر أن كثيراً من اليهود الذين يشاركون في الاحتجاجات ضد الحرب على غزة
وكثيراً من المشاركين في الاعتصامات الطلابية ينتمون أيضاً إلى اليسار التقدمي.
تواصل موقع ميدل إيست آي مع صحيفة جويش كرونيكل ومع
فريدلاند ومع منظمة إبسو للتعليق على ما ورد في هذا التقرير، ولكنه لم يتلق رداً
من أي منهم حتى موعد النشر.
الانحياز إلى الجنرالات
لم تشكل شيطنة أبناء ملتهم من اليهود في حزب العمال من
قبل صحيفة جويش كرونيكل خطاً أحمر بالنسبة لكتاب الأعمدة المرموقين، ولم يكن خطاً
أحمر كذلك بالنسبة لهم احتفاء الصحيفة وتشجيعها لما اعتبرته المحكمة الدولية
"منطقياً" إبادة جماعية في غزة.
والحقيقة هي أن التنمر الذي كان يمارس بلا هوادة، والسعي
الدؤوب لإسكات منتقدي إسرائيل طوال عهد كوربين، ذلك بالضبط هو الذي مهد السبيل
أمام إسرائيل لترتكب المذابح الحالية فتقتل وتجرح الألوف من أطفال فلسطين.
مع التنديد تقريباً بكل نقد يوجه لإسرائيل باعتباره
معاداة للسامية، أطلقت يدا حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة ومنحت الحرية المطلقة
لتدمير القطاع بشكل عشوائي.
كان بإمكانها الاعتماد على السياسيين الغربيين مثل
ستارمر، الذي غدا الآن رئيساً لوزراء بريطانيا، ليعيدوا كتابة القانون الدولي
وللدفاع عن قرار إسرائيل تجويع 2.3 مليون من سكان قطاع غزة من خلال حصارهم
وحرمانهم من الغذاء والماء والطاقة، واعتبار ذلك القرار "حقاً" لها.
كيف إذن ولماذا وجد كتاب الأعمدة الأربعة في جويش
كرونيكل فجأة الشجاعة لاتخاذ قرار بالاستقالة؟ يبدو أن الإجابة أبعد ما تكون عن
مسألة مبدأ، على النقيض مما سعوا إلى إقناعنا به.
وأخيراً ها هي صحيفة جويش كرونيكل تعيش في أزمة، تعصف
بها الفضائح، فقط لأن مؤسسة الحكم في إسرائيل منقسمة جداً حول مسألة التفاوض على
وقف لإطلاق النار وصفقة تعيد الرهائن إلى ذويهم.
لم ينزعج أحد في السلطة بسبب حبل الكذب الذي كان يستعرضه
الإسرائيليون وهم عاكفون على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، بل مضت
الجريمة دون أن يعلق عليها أحد، ودون أن تفضي إلى أي تحقيقات ذات بال من قبل وسائل
الإعلام العالمية.
أما في
هذه الحالة، فقد تم فضح الكذب لمجرد أن جنرالات إسرائيل قرروا هذه المرة أن
الحقيقة مهمة، وما ذلك إلا لأن كبار قادة الجيش لديهم ثأر مع نتنياهو.
يا ترى
هل قرر كتاب الأعمدة في جويش كرونيكل أن يتخذوا موقفاً، ولو متأخراً، لصالح
النزاهة الصحفية؟ أم أنهم أجبروا على اختيار جانب على آخر بينما تزداد هوة الشقاق
داخل المؤسسة الحاكمة في إسرائيل – ففي جانب يقف الجنرالات الذين نفذوا عمليات
الذبح ضد المدنيين في غزة، وفي الجانب الآخر يقف رئيس وزراء يميني متطرف يريد
للذبح أن يستمر إلى الأبد؟
ربما
انتقل كتاب الأعمدة من معسكر إلى آخر، ولكن المعسكرين يقودهما وحوش.