قضايا وآراء

لا وجهة معلومة للبلاد.. "تونس بعين الله"

بحري العرفاوي
"سعيد هو الفاعل السياسي الوحيد بعد أن أعطب كل "المركوبات" من جمعيات ومنظمات وأحزاب، وبعد أن سجن كل معارضيه"- إكس
"سعيد هو الفاعل السياسي الوحيد بعد أن أعطب كل "المركوبات" من جمعيات ومنظمات وأحزاب، وبعد أن سجن كل معارضيه"- إكس
حين يُصبح القادة السياسيون في أي بلد، مجرد محللين سياسيين، لا يمتلكون معطياتٍ ولا يصنعون أحداثا، وحين تصبح صفحاتُ التواصل الاجتماعي فضاءاتٍ ينشر فيها عمومُ المواطنين وجهاتِ نظرهم وتكهناتهم وحالاتهم النفسية ومواقفهم المتناقضة دائما والمتغيرة عادة، نفهم أن ذاك البلد هو بصدد فقدان بوصلته أو هو بصدد مغادرة ملامحه المعهودة نحو مدارات أخرى في عالم المحاور والتحالفات.

من مساوئ الديمقراطية أن آلياتها الرئيسة هي الانتخابات التي تحدد فيها الأغلبية من هو الفائز، وتلك الأغلبية لا يهم فيها سوى كونها أغلبية بقطع النظر عن جودتها من حيث وعيها أو صلاحها وكفاءتها، ومن مساوئ الحرية أنها تسمح بخوض الجميع في جميع الموضوعات فيلتقي العارف والجاهل في نفس المناسبة الحوارية، ويضطر صاحب الاختصاص لمناقشة المتطفل حتى لا يقال عنه أنه مستبد بالرأي ومتعال معرفيا.

لقد انتقلنا في تونس بعد 2011 من مرحلة "التصلب الاستبدادي" إلى مرحلة "التميّع الديمقراطي"، ثم دخلنا بعد 25 تموز/ يوليو 2021 مرحلة الغموض المزعج حيث لا أحد حتى الآن يستطيع تقديم رواية حقيقية حول ما حصل مع البرلمان ومع الأحزاب السياسية، وبالنتيجة لا أحد أيضا يستطيع توقع ما نحن ذاهبون إليه بعد أن تنتهي عُهدة قيس سعيد الرئاسية، وقبل أن يذهب التونسيون إلى صناديق الاقتراع يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر القادم لاختيار رئيسٍ لبلادهم من بين من سيتأكد "حقهم" في الترشح.

انتقلنا في تونس بعد 2011 من مرحلة "التصلب الاستبدادي" إلى مرحلة "التميّع الديمقراطي"، ثم دخلنا بعد 25 تموز/ يوليو 2021 مرحلة الغموض المزعج حيث لا أحد حتى الآن يستطيع تقديم رواية حقيقية حول ما حصل مع البرلمان ومع الأحزاب السياسية، وبالنتيجة لا أحد أيضا يستطيع توقع ما نحن ذاهبون إليه

غياب الحوار بين السلطة ومعارضيها وغياب الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية عن المشهد بسبب موقف قيس سعيد السلبي من "الأجسام الوسيطة"؛ هو الذي جعل الفعل السياسي مركّزا في مكان واحد، بل وجعل خطابا رسميا واحدا يطغى على المشهد ويثير التعليقات الحذرة في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وجعل الرأي العام قلقا لا يدري ما الذي يمكن أن يحدث غدا.

قيس سعيد هو الفاعل السياسي الوحيد بعد أن أعطب كل "المركوبات" من جمعيات ومنظمات وأحزاب، وبعد أن سجن كل معارضيه وبعد أن جعل المرسوم 54 شَفرة بارقة بوجه كل من تراوده الجُرأة على تجاوز منسوب النقد المتاح، وهذا ما سيجعل الأنظار متجهة نحوه؛ سواء من الذين يعلقون عليه أحلامهم أو من الذين يُحمّلونه مسؤولية الأعطاب الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن الاحتباس السياسي.

"وين ماشية البلاد"؟ هذا سؤال يطرحه كثير من التونسيين على كل من يطمئنون إلى قدرته على الفهم والتحليل والاستشراف، ولكنهم يتفاجأون حين يجدون أن من يطرحون عليهم ذاك السؤال هو نفسه يبحث عن إجابة، وهو نفسه يعيش حالة قلق يريد أن يطمئن لا فقط على مستقبله هو ومستقبل بناته وأبنائه، بل وفي الدرجة الأولى على مستقبل شعبه ومصير بلاده في عالم تعصف به الفوضى وتتداخل مصالحه وتتراكم أزماته.

عادة ما ينتهي كل بحث في سؤال "وين ماشية البلاد؟" إلى دعوة متفائلة: "ربي يحمي بلادنا".

في الزمن الانتخابي، وعلى عكس ما هو معتاد، حيث يقوم من هو في السلطة بتهدئة الأجواء وتخفيف الضغط، فإن قيس سعيد زاد من وتيرة "القصف" ولم يتوقف عن تشغيل "منصات صواريخه" ضد أهداف معلومة ومجهولة في آن، ضد كل من يقترب من رئاسية 2024 سواء بالترشح أو بالإسناد، فالجميع بنظره "خونة" و"عملاء" وعلى الشعب أن "يُطهّر" البلاد منهم ضمن "حرب التحرير".

تصعيد قيس سعيد ضد مخالفيه ومنافسيه، يجعل ممارسة السياسة عملا كفاحيا ويجعل التقدم للرئاسة عملا بطوليا، إذ لا أحد يتوقع حجم "القصف" الذي سينطلق من "منصة صواريخ" قيس سعيد.

تصعيد قيس سعيد ضد مخالفيه ومنافسيه، يجعل ممارسة السياسة عملا كفاحيا ويجعل التقدم للرئاسة عملا بطوليا، إذ لا أحد يتوقع حجم "القصف" الذي سينطلق من "منصة صواريخ" قيس سعيد

ولا نعلم إن كان قيس سعيد تلقى نصيحة بأن جدارة الفوز في الانتخابات لا تكون إلا عند تقدم منافسين جديين للمنازلة الانتخابية، وبأن طعم النصر لا يكون حقيقيا إلا حين تكون المعركة متكافئة، وبأنه لا فَخر في تنكيلنا بمنافس مقيَّدٍ ومُكممٍ.

بعض السياسيين من معارضي قيس سعيد يراهنون على إرادة الناس التي سيُترجمونها في ممارسة حق/ واجب الانتخاب، وبعضٌ آخر ممن يرون العالم قرية واحدة وحقوق الإنسان كونية، يراهنون على ضغط خارجي لفرض معايير دولية لانتخابات رئاسية يتقدم إليها متنافسون على قاعدة المساواة والحياد.

وجهة النظر الأخيرة تبدو "مُغرية" لكثيرين لكونها ضمن فلسفة "الحقوق الكونية، من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنها تُعفي أصحابها من تحمل أعباء معركة الديمقراطية، فلا يحبون أن يدفعوا أثمانا ولا أن يُضيعوا المزيد من الوقت في مواجهة رئيس يرونه عنيدا لا يتردد في تشغيل "منصات صواريخه" للرد على كل ما يعتبرها "حركة في الظلام".

لقد ظلت معركة السلطة في بلاد التبعية، معارك متخلفة يُهان فيها الإنسانُ وتُفتَح فيها الأوطان لمختلف أشكال التدخل، فتُنتَهك السيادة والكرامة والحرية معا.

- "وين ماشية البلاد"؟

- "تونس بعين الله".

x.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)