كتاب عربي 21

تصاعد نذر الحرب في الشرق الأوسط

حسن أبو هنية
"اغتيال هنية بعيد تنصيب بزشكيان لم يكن محض صدفة"- إسنا
"اغتيال هنية بعيد تنصيب بزشكيان لم يكن محض صدفة"- إسنا
إن عمليتي الاغتيال اللتين استهدفتا القائد العسكري الكبير في حزب الله اللبناني فؤاد شكر في بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، تكشفان عن رغبة إسرائيلية جامحة بجر الولايات المتحدة الأمريكية لإشعال حرب إقليمية واسعة مع إيران و"محور المقاومة". فمنذ اللحظات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" سعت إسرائيل إلى التأكيد على أن المقاومة الفلسطينية مجرد أداة ودمية في يد إيران، في سياق خطاب استعماري صهيوني راسخ يسعى لاستكمال عملية إبادة الشعب الفلسطيني ومحو القضية الفلسطينية، وإنكار الحق الفلسطيني وإلغاء استقلاليته وفاعليته وحقه الشرعي بمقاومة الاحتلال. وفي ظل ديمومة حالة العجز الإسرائيلي عن تحقيق نصر عسكري استراتيجي على حركة حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة كانت رغبة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تتصاعد بالهروب إلى الأمام وتوسيع نطاق الحرب، واستدراج الولايات المتحدة الأمريكية ودفعها إلى الانخراط في حرب مباشرة مع إيران.

منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أصر الرئيس الأمريكي جو بايدن وكبار مساعديه على أن أولويتهم القصوى هي احتواء الحرب ومنع الغزو الإسرائيلي لغزة من الانتشار وتحوله إلى حرب إقليمية، لكن بايدن الذي يعتز بصهيونيته، يصر على إمداد إسرائيل بكافة احتياجاتها العسكرية والمالية، ولا يمل من الدفاع عن جرائم الإبادة الجماعية وتغطيتها دبلوماسيا وسياسيا في جميع المحافل الدولية. فعلى مدى عشرة أشهر تجنب بايدن المسار الأكثر نجاعة ومباشرة لخفض التصعيد على جميع الجبهات، من خلال التلويح بحجب الإدارة الأمريكية بعض الأسلحة والمساعدات الأمنية الأخرى، ولم يمارس بايدن أي ضغوطات حقيقية على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار، رغم أن بايدن صرح بأن نتنياهو يسعى إلى إطالة أمد الحرب في غزة لتفادي سلسلة من تهم الفساد والمحاسبة على الإخفاق والفشل الذي حصل في السابع من أكتوبر.
على مدى عشرة أشهر تجنب بايدن المسار الأكثر نجاعة ومباشرة لخفض التصعيد على جميع الجبهات، من خلال التلويح بحجب الإدارة الأمريكية بعض الأسلحة والمساعدات الأمنية الأخرى، ولم يمارس بايدن أي ضغوطات حقيقية على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار، رغم أن بايدن صرح بأن نتنياهو يسعى إلى إطالة أمد الحرب

إن ضعف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أغرى الأخير بممارسة مزيد من الضغوطات على إدارة ديمقراطية ضعيفة في وقت انتخابات حاسمة، ودفعت نتنياهو لإحراج واشنطن ودفعها إلى الانخراط في حرب إقليمية مع إيران. فتهديدات بايدن طوال حرب الإبادة كانت مجرد كلمات جوفاء دون قرارات حاسمة، ولا تختلف المحادثة الهاتفية الأخيرة بينهما والتي وصفت بـ"الصعبة" عن سابقاتها، فقد نقل موقع أكسيوس أن بايدن طلب من نتنياهو، خلال المحادثة، التوقف عن تصعيد التوترات في المنطقة، وذكر أحد المسؤولين الأمريكيين أن بايدن حذر نتنياهو من أنه إذا أقدم على التصعيد مجددا، فينبغي له عدم الاعتماد على الولايات المتحدة لإنقاذه.

لكن بعيدا عن هراء الكلمات الجوفاء الفارغة، فإن بايدن أعلن عن إلتزامه الراسخ بحماية إسرائيل، وبحث مع نتنياهو الاستعدادات العسكرية المشتركة لمواجهة الرد المتوقع من إيران وحزب الله. فقد أبلغ بايدن نتنياهو بأن الولايات المتحدة ستساعد إسرائيل على إحباط أي هجوم إيراني، لكنه يتوقع بعد ذلك عدم حدوث مزيد من التصعيد من الجانب الإسرائيلي والتحرك فورا نحو صفقة الرهائن.

لا تحتاج العلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى برهان، وقد جاء بيان الحرس الثوري الإيراني في غاية الوضوح؛ أن "اغتيال هنية تم بفعل صهيوني من حيث التصميم والتنفيذ، وبدعم أمريكي". وقد بات في حكم المؤكد أن إيران ومحور المقاومة سوف يشنان هجوما منسقا وواسع النطاق على إسرائيل ردا على قيام إسرائيل باغتيال العديد من قادة محور المقاومة.

وقد طورت إيران استراتيجية "توحيد الساحات" لردع إسرائيل عن شن حرب ضدها أو ضد حزب الله، ورغم أن طهران وواشنطن لا ترغبان بخوض حرب إقليمية واسعة، فإن ضمان احتواء الضربات ليس مؤكدا ولا يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. ويبدو أن تعليمات المرشد الأعلى آية الله خامنئي السابقة لقادة جيشه بتبني سياسة "الصبر الاستراتيجي" وتجنب أي أعمال قد تؤدي إلى تصعيد كبير، وتجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة؛ لم تعد بذات القيمة، حيث صدرت تعليمات المرشد بالبحث عن رد قوي، واقترح كبار المسؤولين الأمنيين الإيرانيين، بمن فيهم رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة اللواء محمد باقري وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي أكبر أحمديان، أن إيران و"محور المقاومة" سوف ينتقمان من إسرائيل.

طورت إيران استراتيجية "توحيد الساحات" لردع إسرائيل عن شن حرب ضدها أو ضد حزب الله، ورغم أن طهران وواشنطن لا ترغبان بخوض حرب إقليمية واسعة، فإن ضمان احتواء الضربات ليس مؤكدا ولا يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة
وقد أشارت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية إلى أن الهجوم القادم بقيادة إيران على إسرائيل سيكون مشابها للهجوم الصاروخي والطائرات بدون طيار الذي شنته إيران على إسرائيل في نيسان/ أبريل 2024، ولكنه أكبر منه. وقد حذر الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، في 1 آب/ أغسطس، من انتقام "حتمي" ضد إسرائيل ردا على قيام إسرائيل بقتل المسؤول الكبير في حزب الله فؤاد شكر، وأعلن عن مرحلة جديدة من عمليات حزب الله على "جميع جبهات الدعم والإسناد".

بات في حكم المؤكد أن إيران ومحور المقاومة بصدد وضع خطط لآلية الهجمات وحجمها، والطريقة المثلى لاستعادة الردع بإلحاق أكبر ضرر ممكن بإسرائيل، بحيث يتجاوز استعراض القوة الذي حصل بهجمات نيسان/ أبريل الماضي، والانتقال إلى مرحلة استخدام القوة، إذ لم تهدف الهجمات إلى فرض تكلفة جسيمة على إسرائيل واقتصرت على استعراض القوة وإعادة هيبة الردع، حيث أطلقت إيران وحلفاؤها حوالي 170 طائرة بدون طيار هجومية أحادية الاتجاه، و30 صاروخ كروز، و120 صاروخا باليستيا على إسرائيل. واستهدفت إيران على وجه التحديد هدفين إسرائيليين نائيين وهما قاعدة جوية في صحراء جنوب إسرائيل ومركز استخبارات في مرتفعات الجولان، وأطلق حزب الله اللبناني عشرات الصواريخ، في حين أطلق الحوثيون بضع طائرات مسيرة وصواريخ، وقد تمكنت الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما من اعتراض الغالبية العظمى من المقذوفات، وتم احتواء الانزلاق إلى حرب إقليمية.

لا جدال في أن هجوم إيران ومحور المقاومة المرتقب سوف يكون مختلفا كما ونوعا من أجل استعادة الردع مع إسرائيل، مع تجنب الدخول في حرب واسعة النطاق، وأحد السيناريوهات الأكثر ترجيحا وخطورة هو أن تشن إيران ومحور المقاومة هجوما مشتركا واسع النطاق بطائرات بدون طيار وصواريخ متنوعة يتضمن دروسا من هجوم نيسان/ أبريل 2024. وفي هذا السيناريو، يمكن للقادة الإيرانيين زيادة حجم القذائف التي تطلق على إسرائيل من خلال إطلاق المزيد من إيران، أو من الدول المحيطة، أو كليهما.

ويمكن لحزب الله والحوثيين والمليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا أن يشنوا هجمات متزامنة لزيادة الضغط على الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وسيكون اعتراض الطائرات بدون طيار والصواريخ التي يتم إطلاقها من العراق ولبنان وسوريا أصعب بكثير من اعتراض الطائرات من إيران واليمن، نظرا لقصر المسافات وأوقات الطيران إلى إسرائيل، وسيكون أمام القوات الأمريكية والإسرائيلية وقت أقل بكثير لاعتراض تلك المقذوفات، فقد يستغرق الأمر حوالي 15 دقيقة لطائرات حزب الله بدون طيار للوصول إلى حيفا وحوالي 40 دقيقة طيران على مسارات مباشرة للوصول إلى تل أبيب، وإذا تمكنت إيران وشركاؤها ووكلاؤها من تركيز الطائرات بدون طيار والصواريخ على أهداف إسرائيلية محددة في وقت واحد، فقد يكون لديهم سبب للاعتقاد بأن الانحرافات التي يسببها أحدهما يمكن أن تسهل اختراق الآخر.

يراهن نتنياهو من خلال حملة الاغتيالات لقيادات المقاومة على إطالة أمد الحرب وتوسيع نطاقها، وعلى دفع الولايات المتحدة إلى خيارات الحرب الإقليمية، فعملية اغتيال الشهيد إسماعيل هنية الذي كان يقود المفاوضات بشأن صفقة الرهائن، يهدف إلى إحراج طهران بعد ساعات فقط من تنصيب الرئيس الإيراني الإصلاحي الجديد مسعود بزشكيان، ودفع إيران إلى رد انتقامي وجر الولايات المتحدة إلى الحرب، ورغم أن إسرائيل ذاتها قد تدفع ثمنا باهظا بالدخول في حرب إقليمية، إلا أن ذلك من شأنه أن يخدم مصالح نتنياهو بطرق عديدة، فاغتيال هنية يقضي على احتمال التوصل إلى اتفاق وشيك لوقف إطلاق النار.

فعلى مدى أشهر عمد نتنياهو إلى إفشال كافة فرص التوصل إلى اتفاق من شأنه إنهاء الحرب، وهو ما يدركه الرئيس الأمريكي الصهيوني بايدن، الذي أجاب عن سؤال لمجلة تايم عما إذا كان نتنياهو يطيل أمد الحرب من أجل حياته السياسية بالقول: "هناك كل الأسباب لاستخلاص هذا الاستنتاج"، فقد أصبح مصير نتنياهو واضحا للجميع، وهو ذاته يعلم جيدا أن صفقة الرهائن سوف تؤدي إلى انهيار حكومته وإنهاء عهده كرئيس للوزراء، ومن المرجح أن ذلك سوف يفضي إلى تسريع محاكمته الجارية بشأن الفساد، والتي قد تؤدي به إلى السجن.

أحد الأهداف الرئيسية لاغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران بعد انتخاب الإصلاحي مسعود بزشكيان، هو قطع الطريق على أي مفاوضات محتملة بين الولايات المتحدة وإيران والعودة إلى الاتفاق النووي، فقد أدى الانتخاب المفاجئ لبزشكيان، الذي خاض حملته الانتخابية على أساس برنامج استئناف المحادثات مع الولايات المتحدة، إلى خلق إمكانية لتجديد الدبلوماسية والعودة إلى الحوار والتوصل لاتفاق، لكن التصعيد الإسرائيلي من خلال اغتيال هنية والطريقة التي نفذت بها، قوض احتمالات خلق مساحة سياسية في طهران للتواصل وعودة الحوار، وعمل على تقوية التيار المحافظ والتيار المتشدد، الذي بات على قناعة بأن إسرائيل تصرفت بمباركة إدارة بايدن. ففي رسالة إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كتب سفير إيران لدى الأمم المتحدة أن الهجوم "لم يكن من الممكن أن يحدث دون تصريح ودعم استخباراتي من الولايات المتحدة "، وهو ما خلص إليه الحرس الثوري في بيانه بأن "اغتيال هنية تم بفعل صهيوني من حيث التصميم والتنفيذ، وبدعم أمريكي".

إن اغتيال هنية بعيد تنصيب بزشكيان لم يكن محض صدفة، فقدعارضت إسرائيل أي محاولة لتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، حيث سعى نتنياهو على مدى أكثر من عقدين من الزمن إلى حمل الولايات المتحدة على خوض حرب مع إيران. فحسب تريتا بارسي، واجه الرؤساء الأمريكيون الأربعة الأخيرون في أوقات مختلفة ضغوطا من إسرائيل لمهاجمة إيران. ورغم أن قدرا كبيرا من التركيز كان منصبا على البرنامج النووي الإيراني، إلا أن الرغبة في شن هجوم أمريكي مباشر تذهب إلى ما هو أعمق من تخصيب اليورانيوم.

وترى إسرائيل أن إيران تهدد الترتيب الإقليمي الذي يوفر لإسرائيل أقصى قدر من القدرة على المناورة، بما في ذلك القدرة على ضرب سوريا ولبنان مع الإفلات الكامل تقريبا من العقاب. ويعتقد الإسرائيليون أن الاتفاق النووي الذي يمنع إيران من تصنيع قنبلة نووية لن يحول التوازن الإقليمي بعيدا عن إيران. في الواقع، من خلال تخفيف العقوبات التي وعدت بها إيران بموجب الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما، من المحتمل أن تنمو قدرات إيران التقليدية.
المخاطرة التي قام بها نتنياهو تشكل نقطة تحول في الشرق الأوسط، وهي مغامرة في زمن الشك واللايقين، حيث بلغ المشروع الصهيوني في المنطقة غايته القصوى وشرع بالأفول، وهو يواجه أزمات داخلية خطيرة وتحديات إقليمية قاتلة، كما أن مغامرة نتنياهو جاءت في لحظة تاريخية تواجه فيه الولايات المتحدة أزمات وانقسامات داخلية وتحديات دولية عديدة وتحولات جيوسياسية دولية وإقليمية متنامية، وظهور إرهاصات تشكل نظام دولي بتعددية قطبية
لقد أدى تقارب أوباما مع إيران إلى إبعاد ميزان القوى الإقليمي عن دول الخليج العربي وإسرائيل، ولا يمكن الحفاظ على توازن القوى هذا بالقدرة العسكرية الإسرائيلية وحدها، وهو يتطلب عقوبات اقتصادية صارمة وعملا عسكريا أمريكيا.

خلاصة القول أن المخاطرة التي قام بها نتنياهو تشكل نقطة تحول في الشرق الأوسط، وهي مغامرة في زمن الشك واللايقين، حيث بلغ المشروع الصهيوني في المنطقة غايته القصوى وشرع بالأفول، وهو يواجه أزمات داخلية خطيرة وتحديات إقليمية قاتلة، كما أن مغامرة نتنياهو جاءت في لحظة تاريخية تواجه فيه الولايات المتحدة أزمات وانقسامات داخلية وتحديات دولية عديدة وتحولات جيوسياسية دولية وإقليمية متنامية، وظهور إرهاصات تشكل نظام دولي بتعددية قطبية.

فقد عصفت عملية السابع من أكتوبر بالطموحات الأمريكية والإسرائيلية الجامحة بإعادة بناء الشرق الأوسط بقيادة المستعمرة الصهيونية في ظل هيمنة إمبريالية أمريكية، وذهبت مشاريع تصفية القضية الفلسطينية أدراج الرياح، وباتت عملية إعادة بناء تحالفات مع الأنظمة الاستبدادية العربية في إطار "الاتفاقات الإبراهيمية" مجرد أوهام مع صعود القوى الشعبية المناهضة للإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية.

ورغم العنف الإبادي الذي تمارسه المستعمرة الصهيونية، فقد توسعت القناعة الشعبية بأن إسرائيل كيان هش، ولا يعدو عن كونه قاعدة عسكرية للإمبريالية الأمريكية التي ضمنت تمتعها بكراهية شعوب المنطقة، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستقوم بالدفاع عن حليفتها إسرائيل ضد الهجمات من إيران ومحور المقاومة، لكن ذلك لا يعني حتمية الدخول في حرب إقليمية شاملة مع محور المقاومة، وهو ما سيؤكد أن مغامرة المستعمرة الإسرائيلية لن تفضي إلى تحقيق إنجازات على الصعيد الاستراتيجي، وسوف تتعمق أزمة المشروع الصهيوني.

x.com/hasanabuhanya
التعليقات (0)

خبر عاجل