من
المهم أن نؤكد وفي ظل الحديث عن المسألة الإبراهيمية؛ على هامش نراه مهما لالتباسه
على البعض، ضمن معالجات لاثنين من المفكرين والفلاسفة المعاصرين توفاهما الله منذ
حين؛ هما إسماعيل راجي الفاروقي وهو موضوع هذه المقالة، ورجاء جارودي الذي نخصص له
المقالة التالية.
وقد تحدثا
في ضوء ما يسمى المسألة الإبراهيمية حديثا يجب أن يدقق ويعمق في محاولة استبيان
حقيقة مواقفهما من تلك المسألة الخطيرة والمخادعة، والتي شقت طريقها لتكون عنوانا
لمرحلة جديدة في التطبيع مع العدو الصهيوني. ومن هنا برزت الأهمية العميقة لتناول
الرؤية والموقف لكل منهما؛ خاصة أنهما يشكلان وزنا فكريا مرموقا على المستوى
الإسلامي والغربي؛ ويحيل كل منهما إلى ضرورة دراسة سياقات الأفكار والمفكرين؛ لأن
اعتبار السياق في هذا المقام منهج مأمون ومضمون للتعميمات الموزونة والمواقف
المأمونة. هذا أمر منهجي يجب أن نتحسب له ونعتبر أهم آلياته وطرائقه.
وقد
بدا أن حقيقة بيت العائلة الإبراهيمية والدين الإبراهيمي في العقائد الدينية
والتاريخ والعلوم الإنسانية، ومؤامرات وتاريخ مراحل التفكير في الإبراهيمية
اليهودية، وتزوير وإبادة
الأديان، ومراحل صناعة الإبراهيمية اليهودية، تفضح خطط الصهاينة
بداية من مرحلة حوار الأديان ومسار الحج الإبراهيمي، مرورا بمراحل الدبلوماسية
الروحية والخارجية الأمريكية ومرحلة صندوق النقد والبنك الدولي وقوافل السلام
الأمريكية، وصولا إلى حلف الفضول واعتبار أن البيت والحلف هما أكبر انتصار للصهاينة،
ومرحلة وثيقة الأخوة الإنسانية وبيت العائلة الإبراهيمية بأهدافه ومخططاته.
أول
تلك السياقات وأعلاها اعتبارا تلك الفكرة التي تتعلق بالنماذج الفكرية المتحولة
التي أسميها المرتحلة، والتي ترتحل من فكرة إلى فكرة بل من اعتقاد إلى اعتقاد، وهو
ما يترتب عليه لزوما تبدل المواقف وفقا لتحول الاعتقادات؛ وهو أمر لو أُغفل من
القارئ أو المتابع ساقه ذلك مع إغفال السياقات إلى مواقف وصلت في موضوعنا إلى حد
التكفير في حال تبدل التفكير.
ومن
أهم سمات تلك النماذج المرتحلة المتحولة أن تمر هذه الحالات الفكرية برحلة ممتدة
من الانتقالات في عالم الأفكار والمواقف، فيتورط كل من لم يتابع هذه المسيرة
الفكرية والتعرف على مفاصلها وتحولاتها؛ في فائض تعميمات خطيرة وظالمة؛ وضمن هذه
الممارسات التي خرجت عن حد المنطق والمنهج واعتبار السياق، فعالم الأفكار في جوهره
سيرة ومسيرة وسيرورة. وفي هذا المقام نبه القرآن كثيرا إلى هذه المقارنات في
السياق والمستويات المختلفة، والآيات أوضح من أن نثبتها.
ولعل
الأمثلة والنماذج في مسيرة الأحداث والأفكار كثيرة وتقصيها ليس هذا مكانها أو
مقامها، ولكننا نقتصر في هذا السياق على هذين المفكرين دون غيرهما لتعلقهما
بالمسألة الشائكة موضع اهتمامنا ألا وهي المسألة الإبراهيمية.
يتناول
هذا المقال رؤية الأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي، أستاذ الفلسفة ومقارنة
الأديان الذي ولد في مدينة يافا الفلسطينية عام 1921م، من أسرة عريقة وثرية، وقد
أنهى دراسة الثانوية في مدرسة الفرير الدومينيكان الفرنسية سنة 1936م، ثم حصل على
البكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت. وبعد تخرجه عمل الفاروقي
كمحافظ في منطقة الجليل، وعلى إثر اندلاع القتال وظهور الدولة الصهيونية اشترك
الفاروقي في بعض العمليات الجهادية، ثم قرر الهجرة إلى أمريكا، وحصل على شهادتين
في الماجستير في فلسفة الأديان، ثم حصل على الدكتوراة من جامعة إنديانا وقد كانت
أطروحته بعنوان "نظرية الخير: الجوانب الميتافيزيقية الأبستمولوجية للقيم".
وبذلك
فقد حظي الفاروقي بمعرفة معمقة بالفلسفة وبتاريخ الأديان، وحين باشر العمل
بالتدريس في الجامعات الأمريكية شعر بالحاجة إلى تكوين معرفة علمية إسلامية أكثر
متانة، فغادر إلى الأزهر لدراسة العلوم الإسلامية. وبناء على ذلك فيمكن الاستنتاج
أن الفاروقي يدعو إلى ألا تكون معرفة طالب العلم الشرعي محصورة في العلوم الشرعية
فحسب، إنما عليه الاطلاع على العلوم الاجتماعية والإنسانية، فالحصر يولد ضيق
التفكير والجمود وصنع كليات بعيدة عن الواقع، في حين أن الاطلاع على الآخر وتعلم
المناهج وتتبع آخر ما تتوصل له العلوم والأبحاث؛ يجعل من معرفة طالب العلم كونية
وشاملة ولصيقة بالواقع، ومن جانب آخر فهي دعوة للمسلمين ككل في التزود بعلوم الملة
كي تكون مرجعية للباحث، ومعيارا يستطيع من خلاله صنع أقيسة ليعرف ما فيه الصلاح والحق
وبما فيه الفساد والجور.
هذا
بعض من سيرته ومسيرته المعرفية والفكرية؛ وقد قال الفاروقي: "علينا نحن
المسلمين أن نتحلى -إلى جانب إسلامنا- بالفهم العميق للأفكار والأديان الأخرى،
بحيث يُعلّم منا التلميذ أستاذه!".. استُشهد إسماعيل الفاروقي مع زوجته لمياء
الفاروقي طعنا بالسكاكين في ليلة 18 رمضان 1406/1986، بيد من يدّعي أنه مسلم، ومن
المرجّح أن جمعه بين مشروع جذري للتجديد الفكري ومواقفه الملتزمة سياسيا هو الذ
كان وراء اغتياله.
وكان
يعتقد أن دراسة الديانات ليست بالمهمة السهلة، وهي عملية معقدة تحتاج من الباحث أن
يكون على عمق بما تمثله الديانات من أفكار وأفعال وتجليات، وكان منهجه ترك الظاهرة
لتتحدث عن ذاتها من غير إدخالها في قوالب فكرية مسبقة، وقد استعمل مقولة هوسرل
القائلة: "اترك النظرة الماهوية لتنظم المعطيات، لتكون قابلة للفهم". ويعد
كتاب الفاروقي "أطلس الحضارة الإسلامية" أول كتاب اتخذ المنهج الظاهراتي
أو الفينومينولوجي لدراسة الإسلام وحضارته. يقول الفاروقي في مقدمة الكتاب: "هذه
دراسة تنظر إلى جوهر الإسلام من حيث علاقته المطلقة بالقرآن والسنة، وتهدف إلى تقديم
المكونات الحضارية بوصفها تجسيدا لذلك الجوهر في الزمان والمكان، وقد يصح القول إن
هذا الكتاب أول تطبيق للدراسة الظاهراتية في دراسة الإسلام".
ضمن
هذا المنهج درس الفاروقي المسألة الإبراهيمية؛ فكان كتابه فائق القيمة في محتواه
ومبناه: "إن جوهر التوحيد وهو تنزيه الله تعالى وإدراك الطابع المفارق للذات
الإلهية، فيذكر أن الإسلام واليهودية والنصرانية أديان سماوية عالية، انبثقت من
المشكاة السامية ذاتها، وأن كل من اليهودية والمسيحية قد انحرفتا عن المسار الصحيح".
إن
التوحيد كما بين الفاروقي وأثره على مضامين الحياة، يعكس حالة من السواسية
الإنسانية، "فجميع الخلق أمام الله على سواء مهما اختلفت أعراقهم وأنسابهم،
فالمفاضلة لا لعرق ميزه إنما للتقوى بين الناس، كما أن الأصل في البشرية أنهم
مخيرون وبكامل إرادتهم، وبيدهم خلاص أنفسهم، وبأن الإسلام دين مؤسسي وليس نظرية
فحسب، اتسم بالتعددية والسماحة، ودفع الغير إلى استخدام عقولهم، واتباع الحجة،
والتوحد تحت إمرة دين واحد".
وعلى
الرغم من معايشته لهذا النموذج فإنه لم يقع في أسره؛ بل نظر إليه نظرة نقدية من
واقع نموذجه المعرفي التوحيدي الذي اتخذه ميزانا يمكن أن يزن به أي نماذج أخرى.
ففي كتابه "التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة"، يشرح الرجل من خلال
عدد من المساحات الفكرية والمجتمعية كيف يمكن للتوحيد أن يشكل رؤية الفرد الموحد
ويصنع له نموذجه الفكري والمعرفي تجاه العديد من الأمور.
فالتوحيد
كجوهر للخبرة الدينية يعني "مركزية مفهوم الله بالنسبة للمسلم في
كل مكان، وفي كل فعل، وفي كل فكرة، وفي كل زمان"، ويترتب على هذا التصور أن
الذات الإلهية هي المنتهى الأخير المطلق ومصدر الأساس القيمي لكل ما في الوجود. فالخبرة
الدينية الناتجة عن التوحيد منشغلة بإله واحد فرد صمد ليس كمثله شيء، إرادته لا
معقب عليه، وهادية لكل جوانب الحياة". هذه الأفكار التي أوردناها عن الفاروقي
كانت محل تأليفات ومقالات عدة استفدنا منها جميعا ونقلنا منها وعنها.
عمل
الفاروقي على جبهات أربع؛ الأولى مقارنة الأديان وانتصر فيها للأصول التوحيدية،
والجبهة الثانية مع الحضارة الغربية ناقدا نموذجها المعرفي وطرح أسس النموذج
المعرفي التوحيدي البديل، والجبهة الثالثة المتعلقة بكيف يكون النموذج الناجع في
التعارف الحضاري وحوار الثقافات والحضارات وحوارات أهل الأديان، أما الجبهة
الرابعة والأخيرة فكانت كشف حقيقة الحركة الصهيونية وحقيقة صراع الأمة مع العدو
الصهيوني، وتشريح علمي ظاهراتي للديانة اليهودية؛ يسخّر معرفته وخبرته لخدمة هذه
القضية الفلسطينية، وهذا هو الهدف، وله آراء متميزة وفريدة وهي: ضرورة تحويل
كارثة فلسطين إلى قوة دافعة
للشعب الفلسطيني، لكي يرتبط بالفكرة الإسلامية، ضمن هذا السياقات الفكرية
والمعرفية يمكن تحديد الرؤية للإبراهيمية وفقا للفاروقي، والتي لم يدع أبدا إلى وحدة
الأديان أو الديانة الإبراهيمية المشبوهة سياسيا ودينيا وثقافيا.
فلا
يفترينّ أحد على هذا المفكر القدير المجاهد الكبير الذي رابط على جبهات عدة ينافح
فيها عن الحق والحقيقة، ولا يغترن جاهل أو غافل متعلقا بتأليف الفاروقي لكتاب ضمن
مؤلفاته في مقارنة الأديان منذ عقود عن "ثلاثية الأديان الإبراهيمية" (Trialogue
of the Abrahamic Faiths)، والذي لم يترجم للعربية للأسف الشديد؛
مشرحا لها، أي لتلك الأديان؛ وكأنها تفسير معرفي وحضاري وسياقي للآية القرآنية: "مَا
كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفا مُّسْلِما
وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 67).
x.com/Saif_abdelfatah