قضايا وآراء

تونس: هل تكون رئاسية 2024 محطة لإعادة خلط الأوراق؟

بحري العرفاوي
"حملة الاعتقالات الأخيرة بأسلوبها العنيف كانت موضوع بيانات خارجية"- إكس
"حملة الاعتقالات الأخيرة بأسلوبها العنيف كانت موضوع بيانات خارجية"- إكس
نحن في زمن "الذروة السياسية" ولم يبق على الانتخابات الرئاسية في تونس إلا أربعة أشهر، والمشهد لم يتشكل حتى الآن بشكل واضح، وكل ما يحدث إنما هو مجرد تحريك لأزمة متخثّرة لا يزيدها التقليب إلا غموضا وتعقيدا. ولا يبقى أمام المحللين إلا محاولة تجميع الوقائع علّها تساعد في فهم أقرب للحقيقة وأكثر إمساكا بخيوط "اللعبة" وبعناوين "اللاعبين".

في كلمته أمام وزيرة العدل يوم 25 أيار/ مايو، تكلم قيس سعيد عن كونه يحترم الحريات التي يراها مضمونة بالدستور أكثر مما هي موجودة في دول أخرى تتدخل في الشأن الداخلي التونسي، وأرسل في كلمته تلك ثلاث رسائل مهمة يمكن الاشتغال عليها في التحليل والفهم:

1- رسالة أولى موجهة إلى "اليسار" اليميني، الذي ينبض قلبه على اليمين، كما يصفه قيس سعيد، والمقصود أنه يسار غير اجتماعي وغير ملتزم بقضايا العمال والفقراء، إنما هو يسار ليبرالي.

ولعله يشير تحديدا إلى اليسار الفرنكفوني الذي يتهمه بالعمالة والخيانة، خاصة والإعلام الفرنسي يشتغل هذه المدة ضد قيس سعيد ولا يكف عن إبداء مساندة لأسماء تم سجنها بسبب مواقف سياسية، كما حدث مع دار المحامي من اقتحام لإيقاف الأستاذة سنية الدهماني (الأستاذ مهدي زقروبة لا يدافع عنه إعلام فرنسا، إنما قد يستثمر في وضعيته لتعبيد الطريق إلى بديل محتمل)، وكما حصل مع الاعلاميَّيْن برهان بسيس ومراد الزغيدي.
حملة الاعتقالات الأخيرة بأسلوبها العنيف كانت موضوع بيانات خارجية صدرت عن كل من فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. تلك البيانات مجتمعة لا يمكن فهمُها إلا ضمن موقف سلبي من مسار 25 تموز/ يوليو، أي من سلطة قيس سعيد
ورغم الحديث عن كونية الحقوق الإنسانية فإن التناول الفرنسي للشأن التونسي يظل شكلا من أشكال التدخل المرفوض؛ خاصة وتاريخ فرنسا الاستعماري لا يشفع لها لكي تكون معلمة في مجال الحقوق والحريات.

حملة الاعتقالات الأخيرة بأسلوبها العنيف كانت موضوع بيانات خارجية صدرت عن كل من فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. تلك البيانات مجتمعة لا يمكن فهمُها إلا ضمن موقف سلبي من مسار 25 تموز/ يوليو، أي من سلطة قيس سعيد.

ولعل هذا ما جعله يتخفف من وزيرين ربما يُنظَر إليهما على أنهما مؤدلجان أو عنوانان للصرامة السياسية، وقد تُفهم تلك الإقالة على أنها خطوة إلى الوراء لتخفيف الضغط الخارجي ولامتصاص حالة الاحتقان. ولعل استقبال وزير الداخلية الجديد لعميد المحامين التونسيين هو في هذا المعنى، حيث عبر الوزير عن تقدير مكانة المحامين ورسالتهم وعن تكامل مهمتي الداخلية والمحاماة في تطبيق القانون.

2- رسالة ثانية موجهة إلى "الدساترة" وهم من عبر عنهم بـ"التجمعيين"، حين اعتبر أن أسباب الأزمة هي "اللوبيات" وليس التجمع أو النهضة، ولعله يرسل بإشارة لطيفة إلى الجسم السياسي الثاني بعد النهضة، وهم الدستوريون سواء عبرت عنهم الأستاذة عبير موسي أو عبر عنهم الوزير التجمعي السابق منذر الزنايدي، ولست متأكدا مما إذا كانت اتصالاتٌ قد حصلت مع السيد منذر الزنايدي، وقد لوحظ أنه لم ينشر على صفحته الرسمية على الفيسبوك منذ 13 أيار/ مايو 2024 أيَّ موقف بعد أن تعوّد كل أسبوع على نشر رسالة أو بيان أو فيديو، وكان آخر نص له بعنوان: "حان وقت الرحيل"، وقد عبر في ذاك النص عن يأسه من منافسة قيس سعيد عن طريق المشاركة في الانتخابات، لما اعتبره تضييقا على المنافسين لمنعهم من المشاركة.
نفى في كلمته تلك أن تكون الأزمة مرتبطة بالنهضة أو بالتجمع، وإنما هي مرتبطة باللوبيات، وقد ذهب بعض المراقبين إلى كون الرئيس ذكر النهضة باسمها الذي تُعرَف به على خلاف أعدائها الذين يقولون عنها "إخوانجية"
فما هو الأسلوب الآخر الذي يراه منذر الزنايدي لـ"رحيل" قيس سعيد؟ وهل يكون "يأسه" من الحل الانتخابي وراء كفّه عن التدوين؟ أم هل تكون ثمة أسباب أخرى لا نعلمها؟ وإن عالم السياسة هو في الغالب عالم غير مرئيّ.

3- رسالة ثالثة موجهة إلى النهضة، حين نفى في كلمته تلك أن تكون الأزمة مرتبطة بالنهضة أو بالتجمع، وإنما هي مرتبطة باللوبيات، وقد ذهب بعض المراقبين إلى كون الرئيس ذكر النهضة باسمها الذي تُعرَف به على خلاف أعدائها الذين يقولون عنها "إخوانجية"، ويستنتج هؤلاء أنه لو كان في نية الرئيس حل حزب النهضة لما ذكره باسمه، أو لعله يُلاطف جمهوره ويطمئنه بكونه في مأمن من أي تضييق على حريته في التفكير والتعبير والنشاط المدني.

وبالتحليل، فإن قيس سعيد لا يمكنه فك الحصار الخارجي عنه والضغط الداخلي إلا بإجراء "مراجعات" حقيقية، لا بمعنى العودة إلى ما قبل 25 تموز/ يوليو، ولا أيضا بمعنى غلق ملفات الفساد الحقيقية، وإنما بمعنى إيقاف عملية الاستهداف العشوائي للمعارضين، والحسم في القضايا العالقة بطريقة شفافة عادلة، وإطلاق سراح المساجين السياسيين والكف عن خطاب التخوين والتحريض والتهديد، ورفع اليد عن السلطة القضائية وإعادة القضاة المعزولين، وإيقاف بعض الغوغائيين عن ممارسة التهريج والعبث في منابر إعلامية لا تمارس إلا التشويه والتحريض والمبالغة في إبداء ولاء زائف للرئيس؛ ضررهم له أكثر من نفعهم.

تلك "المراجعة" ستكون مطمئنة إلى كون المصالحات ممكنة بين كل القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية والمدنية والنخب، بما يسمح بتحقيق وئام وطني يمنع استمرار التدخل الخارجي في الشأن الوطني.

وجد نفسه أخيرا يلامس واقعا ميدانيا مختلفا عما هو نظري، فالناس قد تغريهم الشعارات الجميلة في البداية، ولكنهم حين تُتعبهم ظروفهم المادية فإنهم سيتلمّسون جيوبَهم ولن يراجعوا خطابات الرئيس وشعاراته

حركة النهضة التي دفعت دائما كلفة عالية في كل مراحل المعارضة لأنظمة الحكم منذ 1981، والتي جرّبت الحكم بعد 2011 ولم تنجح مع شركائها في الجملة، لعدة أسباب تداخل فيها الذاتي بالموضوعي، ستكون (بحسب منهجها المعلوم) مستعدة، في ظروف مطمئنة، كي تساهم في حل الأزمة دون "وصاية" خارجية، وهي ليست معنية بالعودة إلى السلطة أكثر من كونها معنية بمسألة الحرية وبمطالب التونسيين الاجتماعية.

حظوظ قيس سعيد وآفاقُه

قيس سعيد الذي ظل يرفض كل دعوات الحوار، والذي لا يعترف بـ"الأجسام الوسيطة" من أحزاب ومنظمات وطنية، والذي يرى نفسه في علاقة مباشرة بالشعب من خلال "البناء القاعدي"، خاصة وقد فاز في انتخابات رئاسية نزيهة سنة 2019 بنسبة عالية لم يحصل عليها رئيس عربي من قبله (دون نظر للنسب العربية المزورة)، قد وجد نفسه أخيرا يلامس واقعا ميدانيا مختلفا عما هو نظري، فالناس قد تغريهم الشعارات الجميلة في البداية، ولكنهم حين تُتعبهم ظروفهم المادية فإنهم سيتلمّسون جيوبَهم ولن يراجعوا خطابات الرئيس وشعاراته.

وعلى مستوى خارجي، القوى الأجنبية، والغربية منها خصوصا، لا تنظر لغيرها من الحكام، العرب منهم خاصة، على أنهم أصدقاء ولا على أنهم شُركاء، إنما تريدهم عملاء وتحرص على أن يظلوا ضعفاء وعاجزين حتى يكونوا في حمايتها تُملي عليهم أوامرها.

لن يتحرر أي نظام عربي رسمي إلا باعتماده على شعبه حين يبني وحدة وطنية حقيقية يطمئن فيها المواطنون لبعضهم، فلا تكون العلاقات صراعا دائما بين الأحزاب فيما بينها وبين السلطة والمعارضة.

واقعيا، لا وجود حتى الآن لشخصية سياسية متفق عليها يمكنها تمثيل المعارضة في منافسة قيس سعيد، ولا يريد التونسيون تدخلا خارجيا يُرتب لهم الأوضاع ويُنصّب عليهم قيادة سياسية لا تحظى بثقة التونسيين من خلال صناديق الاقتراع.

يكون قيس سعيد مطالَبا بحماية جدية الانتخابات وسلامة الديمقراطية، فلا يفرض شروطا لمنع منافسيه من خوض الانتخابات، ولا يستعمل ملفات لا يشهد القضاء بجديتها في تعطيل التنافس على نيل ثقة التونسيين

وهنا، يكون قيس سعيد مطالَبا بحماية جدية الانتخابات وسلامة الديمقراطية، فلا يفرض شروطا لمنع منافسيه من خوض الانتخابات، ولا يستعمل ملفات لا يشهد القضاء بجديتها في تعطيل التنافس على نيل ثقة التونسيين.

ليس من مصلحة تونس ولا من مصلحة الديمقراطية ولا من مصلحة أي رئيس "ينتزع" فوزا بطرائق غير نظيفة، فلا فرق بين دكتاتورية عارية وبين ديمقراطية زائفة.

ربما فكّر صُناعُ سياسة "مركبة 25 تموز/ يوليو"، في تغيير مدار التحالفات الدولية، بالذهاب نحو المحور الآخر، حيث روسيا والصين وعدد من الدول المتمردة على الغرب الرأسمالي، وحيث محور المقاومة الذي أدخلته "طوفان الأقصى" إلى زمن جديد هو أبعدُ مما "بعد الحداثة"، إنه زمن "الإنسان" المقاوم، وهو تفكير نجد ما يدل عليه عمليا وما نتابعه من مواقف وتصريحات، غير أن استبدال محور بمحور لا يُجدي حين تذهب إليه قيادةٌ سياسية لم تُعْلِ بعْدُ حُصونها الداخلية ولم تُمتّنْ نسيج وحدة شعبها، فالمحاور لا تبنيها الشعاراتُ وإنما تبنيها الشعوب حين تكون هِممُها متعلقة بالعناوين الكبرى، وحين تترفع عن الخصومات والأحقاد، وحين لا يتولى فيها التفهاءُ مهمة التنظير أو التسيير.

x.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)