تناولت في مقالي هنا ليوم 30 أيلول/ سبتمبر
الماضي، أمر خروج عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة وقائد
الجيش السوداني من
الخرطوم، بعد اختفاء عن الأنظار طوال أكثر من أربعة أشهر، ظل فيها هو وكبار قادة
الجيش، محاصرين داخل مباني القيادة العامة للجيش، من قِبل قوات الدعم السريع التي
يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والتي تخوض حربا ضد الجيش السوداني، دخلت الآن
شهرها السابع، وحاول الإعلام الموالي للبرهان تصوير ذلك الخروج، وكأنه خروج من مكة
حيث صناديد قريش يضيقون عليه، الى رحاب يثرِبِه (ميناء بورتسودان) حيث سيأتيه نصر
الله والفتح.
قلت في ذلك المقال إن البرهان خرج من أرض
المعركة الرئيس (الخرطوم) وقد لا يعود إليها، لأن حصار الدعم السريع على مواقع
الجيش كلها في العاصمة، ما عدا قاعدة وادي سيدنا الجوية ما زال على أشُدِّه، وإن
البرهان سيكتفي بالهيلمان والطيلسان الذي ينعم به في العواصم التي يزورها كرئيس
دولة "افتراضية" على أحسن الفروض، فقد كان السودان الذي سطا البرهان على
السلطة فيه، بعد أن أطاحت ثورة شعبية بحكم الجناح السياسي للحركة الإسلامية في
نيسان/ أبريل من عام 2019، بزعم الانحياز للثورة، بلدا مهلهلا أوصاله مخلخلة، وبعض
أطرافه خاضعة لجماعات متمردة، والبعض الآخر يعاني من بؤس الخدمات العامة وانعدام
الأمن.
ثم بدأت الحرب بين الجيش والدعم السريع،
ودخل السودان مرحلة الفوضى الشاملة، خاصة في منطقة العاصمة، حيث انسحبت قوات
الشرطة من مسارح عملها مؤثرة السلامة، وحيث توقفت الخدمات الضرورية من ماء
وكهرباء، وحيث تعرضت معظم أحياء مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم وبحري وام درمان)
للنهب من قبل عصابات مسلحة من بينها عناصر من الدعم السريع، فاكتملت حلقات الفشل،
فما هو متعارف عليه، هو أن الدولة تصبح فاشلة إذا فقدت السلطة الحاكمة فيها القدرة
على السيطرة الفعلية على أراضيها، وفقدت احتكارها لحق استخدام العنف المشروع في
الأراضي التي تحكمها. مقرونا بفقدانها لشرعية اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها. ثم
عجزها عن توفير الحد المعقول من الخدمات العامة. وعن التفاعل مع الدول الأخرى كعضو
في الأسرة الدولية.
الآن فالبرهان خارج فعليا المعركة، وها هو نائبه على قيادة الجيش يخرج من مقر القيادة، أي أن كلا الرجلين باتا بعيدين عن مركز إدارة المعارك، ولم يبق أمامها سوى التواصل مع هيئة القيادة إلا عبر تطبيق واتساب، والمكالمات الهاتفية، في بلد تنهار فيه شبكات الاتصالات عدة مرات يوميا تحت ضغوط المكالمات، ولأن العديد من أبراجها الناقلة للمكالمات تعرضت للدمار.
وقبل يومين اشتعلت الأسافير بالتصفيق
والتهليل، لأن شمس الدين كباشي نائب القائد العام للجيش السوداني (الذي هو
البرهان)، وعضو مجلس السيادة، تمكن بدوره من الخروج من القمقم الذي ظل محبوسا فيه
بأمر قوات الدعم السريع، وسار الرجل بين نفر من الضباط وصف الضباط رافعا علامات
النصر بإصبعين، وكأنما هو يقول إن نجاحه في التسلل من حيث كان محاصرا لأكثر من ستة
أشهر، هو في حد ذاته انتصار جدير بالاحتفاء.
منذ خروجه من الخرطوم، زار البرهان قطر ومصر
وأريتريا وجنوب السودان وتركيا، ثم وقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث
خاطب قاعة خاوية إلا من موظفي المراسيم ومرافقيه، وبعدها اتخذ من ميناء بورتسودان
البعيد عن ارض
المعارك ملاذا آمنا، ولكنه وكما عجز منذ انقلابه على الشق المدني في
الحكم في تشرين اول/ أكتوبر من عام 2021، عن تشكيل حكومة، وجد نفسه أيضا
"رئيسا" لحكومة لا وجود لها على الأرض أو حتى على الورق، ومنذ أسابيع
سكت البرهان عن الكلام المباح وغير المباح عن الحرب، وربما تلقى النصح بالكف عن
قبول الاستضافات في قنوات التلفزة للحديث عبر الهواتف، كما يفعل مراقبو المشاهد
والمحللون السياسيون.
التهليل لخروج كباشي نائب قائد الجيش
السوداني من حالة الحصار التي كان خاضعا لها لستة أشهر، تذكر السودانيين بما حدث
للرئيس المخلوع عمر البشير عندما زار جنوب أفريقيا في عام 2015، للمشاركة في
اجتماع لقادة أفارقة، وكان وقتها مطلوبا للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية متهما
بارتكاب جرائم حرب وإبادة للبشر، فكان أن تحركت السلطات العدلية في الدولة المضيفة
لاعتقاله، ولكن جهاز الأمن الجنوب أفريقي تمكن من تهريبه إلى مطار صغير في أطراف
مدينة جوهانسبيرغ، حيث غادر إلى الخرطوم وقد نظم له أنصار الحزب الحاكم استقبال
الفاتحين، وأضفوا عليه لقب أسد أفريقيا.
مجريات الحرب في السودان تقول إن يد قوات
الدعم السريع هي العليا، لأنها لم تفقد موقعا سيطرت عليه منذ بدء المعارك، وإنها
تتمدد في ولايات كردفان وتقترب من مدن إقليم النيل الأبيض، المحاذي لولاية الخرطوم
من جهة الجنوب، وإن الجيش يفتقر الى القوات البرية، ومن ثم يستخدم سلاح الطيران
لضرب المواقع التي يسيطر عليها الدعم السريع، فتكون النتيجة في كل مرة دك مساكن
المدنيين وسقوط عشرات المواطنين صرعى.
والآن فالبرهان فعليا خارج المعركة، وها هو
نائبه على قيادة الجيش يخرج من مقر القيادة، أي أن كلا الرجلين باتا بعيدين عن
مركز إدارة المعارك، ولم يبق أمامها سوى التواصل مع هيئة القيادة إلا عبر تطبيق
واتساب، والمكالمات الهاتفية، في بلد تنهار فيه شبكات الاتصالات عدة مرات يوميا
تحت ضغوط المكالمات، ولأن العديد من أبراجها الناقلة للمكالمات تعرضت للدمار.
وهكذا قد يدرك كباشي ما أدركه البرهان من
قبل بأن
خروج الناس من الشبكات هيِّن ولكن التأمل في الرجوعِ