عودة النفير الثوري الديمقراطي في جنوب سوريا والسويداء تؤكد أن توق
الشعوب للحرية والسيادة والديمقراطية تبدد أوهام الاستبداد
العربي.. وفي أوطان
عربية أخرى تستمر المطالبات بالحقوق ضد الدول العميقة صنيعة الاستعمار القديم والجديد.
ونتذكر أن تونس شهدت فتنة الانقسام الخطير والدموي بين بورقيبة وغريمه صالح بن
يوسف في الخمسينيات وحسم بورقيبة ذلك الصراع الأهلي باغتيال منافسه سنة 1962..
وأعتقد أن أول مشهد بدأ يختفي من العالم العربي بسبب التحولات
العميقة التي هزته هو مشهد السياف مسرور الذي كان رمزاً أدبياً ودمويا للحكم
المطلق وعنواناً عربياً تاريخياً لجمع كل السلطات في يد الحاكم العربي، ولم يكن
السياف مسرور سوى الجلاد الجاهز لتنفيذ أي حكم فردي وفي الحال بدون تردد أو نقاش.
وجاءت مشاهد الانقلاب على التجارب والطموحات الديمقراطية في العالم
العربي تؤكد أن السياف مسرور الذي اعتقدنا أننا أطردناه بثورات الملايين عاد من
جديد كما يطلع فجأة العفريت الشرير من قمقم مصباح علاء الدين ليقول للمنقلبين: "شبيك
لبيك عبدك مسرور جاهز بين يديك أمرك مطاع يا ملك الملوك أشر لي فقط إلى أحد الرعاع
وإلى الرأس التي أقطعها من بين معارضيك الخونة وخلاياك السرطانية التي تحتاج إلى
علاج كيمياوي وسيلتحق ضحيتك بقافلة ما يسمونه هم بشهداء رابعة..
وبالطبع فإن غياب السياف مسرور إلى الأبد كان وهما شعبيا لأن الرعايا
لم يتحولوا إلى مواطنين ولأن نخبتهم بدأت تتعود على السياف ولا ترى في سيفه البتار
سوى قدر محتوم وأصبحت جزمة الاستعمار على رؤوس القوم أمرا عاديا ومستحبا وابتعد
أكثر فأكثر حلم يقظة بأن الثورة بشهدائها الأبرار وجرحاها الأخيار سوف تفتح بقدرة
قادر وبدون تضحياتنا عهداً حضارياً للأمة يعود فيه للإنسان المواطن حقه في الحياة
بدون رعب السياف وفي منأى عن الأمزجة والطاغوت.
صورة السياف مسرور الواقف بين أيدي أمير المؤمنين هارون الرشيد ظلت
تداعب خيالنا منذ الطفولة كأنها ملحمة عربية صميمة حين بدأنا نقرأ أمهات كتب الأدب
العربي مثل كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني
وكذلك أدب الخيال مثل ألف ليلة وليلة وتواصلت صورة السياف مسرور ترافقنا مع قدوم
الأفلام المصرية الأولى أبيض وأسود والمستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة والتي نرى
فيها من خلال شاشاتنا القديمة ذلك الرجل الأسود البدين القوي مفتول العضلات
والممتشق سيفا ضخما وهو يأتمر بأوامر الخليفة الأموي أو العباسي الذي كان يجسده
عادة الممثل المصري عباس فارس بصوته الجهوري كلما ناداه: يا مسرور اقطع رأسه! وكان
يقوم بدور مسرور نفس الممثل المصري على مدى ربع قرن ونظل نحن الأطفال المساكين
نرتعد في قاعة السينما مع الضحية الذي لا يملك استئنافاً ولا نقضاً للحكم البات والفردي،
ويغمض الحساسون منا وذوو القلوب الرقيقة عيونهم إلى أن يمر مشهد قطع الرأس.
وما كان أكثر الرؤوس المتدحرجة في بلاطات الخلفاء والملوك عبر
التاريخ العربي ظلماً وعدواناً وما أكثر السيافين في كل العصور العربية المظلمة!.
ومع مرحلة الاستعمار في بلاد المغرب العربي عشنا بالفعل مأساة السياف
مسرور لكنه هذه المرة يخدم ركاب المحتل الفرنسي ويلاحق المجاهدين ويغتال
المقاومين، ورأينا مسرور يرفع سيفه البتار لينال من حقوقنا في الاستقلال والحرية
وهو موظف في إدارة المستعمر أو عضو في منظمته الإرهابية (اليد الحمراء) التي اغتالت
الشهيد فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952 ثم
أولاد حفوز ثم الهادي شاكر وغيرهم كثير.
ظلت نداءات الحكام للسياف مسرور هي ذاتها مع بعض التغيير في التفاصيل ومع انتقال السلطة بين يوم وليلة من حاكم إلى حاكم بالانقلابات وبيانات الساعة الأولى تغيرت ملامح الديكور وتبدلت الشعارات البراقة وتحولت الأساليب لكن الذي لم يتغير هو السياف مسرور.
وحين حصلت بلداننا على استقلالها تذبذبت حكوماتنا الوطنية بين انتهاج
نهج الوفاق والمصالحة وبين إتباع طريق تصفية الحسابات بين الفرقاء والخصوم
والمتنافسين على السلطة فعاد شبح السياف مسرور يرتاد بلاطات الحكم في مرحلة ما بعد
الاستقلال، وشهدت تونس فتنة الانقسام الخطير والدموي بين بورقيبة وغريمه و رفيق
كفاحه المرحوم صالح بن يوسف، واستعمل بورقيبة نفس السياف ضد الملك طيب الذكر
الأمين باشا باي وأسرته، وضد المناضل الكبير الطاهر بن عمار ثم ضد أقرب أبنائه
أحمد بن صالح، وأخيرا ضد أوفى الأوفياء له محمد مزالي، وكذلك فعل بعده وريثه زين
العابدين بن علي. و في مصر و سوريا و العراق و اليمن و ليبيا سالت أنهار من دماء
الناس بتهم "الخيانة و الرجعية" و انحرفت الدول الى الخروج من التاريخ.
وشهدت المملكة المغربية صراعاً بين الملك محمد الخامس والسلطان بن
عرفة وعاشت الجزائر فواجع التصفيات بين فصائل الدولة بعد التحالفات في مرحلة
الثورة وكان آخر ضحاياها المرحوم الرئيس محمد بو ضياف عام 1992 وعشرات الآلاف من
المواطنين. وأنا أكتفي بذكر السياف ألمغاربي مسرور لأني لو فتحت معاجم تاريخ
السياف المشرقي مسرور لاحتجنا إلى مكتبات كاملة. ولكل مثقف ومواطن مصري وتونسي وجزائري
وشامي وعراقي وسوداني ويمني وليبي أن يستعيد التاريخ القريب لبلاده ليدرك بأن
السياف مسرورمن جنسيته وبأن ضحاياه بالآلاف منذ أكثر من نصف قرن.
وظلت نداءات
الحكام للسياف مسرور هي ذاتها مع بعض التغيير في
التفاصيل ومع انتقال السلطة بين يوم وليلة من حاكم إلى حاكم بالانقلابات وبيانات
الساعة الأولى تغيرت ملامح الديكور وتبدلت الشعارات البراقة وتحولت الأساليب لكن
الذي لم يتغير هو السياف مسرور.
بقي كما هو بسيفه المهند يقف وراء العرش ويأتمر
بأوامر صاحب العرش وينفذ ويطيع مع تغيير في الرؤوس المقطوعة بل أنك تحسبه لا ينظر
من هو الجلاد ومن هو الضحية ولا يهمه من الذي يعطي الأمر ومن الذي يروح في داهية
المهم بالنسبة إليه هو رفع البتار ليهوي به على رقبة بائس مغلول في القيود دون أن
ترف لمسرور عين ولا أن تصيب يده رعشة وبلا أي حزن ولا تردد ولا سؤال ولا ندم يواصل
أداء وظيفته كالآلة الخرساء العمياء انه مسرور العربي الأبدي الأزلي: ماكينة القتل
مسرور الدائم منذ خمسة عشر قرنا من التاريخ العربي!
هو ذاته الذي رأيناه ليلة من ليالي يوليو 1958 في بغداد يقتل الملك
الشاب فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد ثم رأيناه هو ذاته يقتل قاتلهما عبد الكريم
قاسم مؤسس الجمهورية العراقية والذي كان على سدة الحكم ذات يوم من أيام يوليو1961.
ثم جاء صدام حسين فقتل من قتل إلى أن قتلوه رحم الله الجميع وغفر لهم
ومنطق الرأس المقطوعة كان هو مبدأ الحكم في دولة المماليك حيث لا يبايع حاكم على
العرش إلا بعد أن يقدم للجمهور رأس سلفه مقطوعة فتحل البيعة ويستوي القاتل الجديد
على العرش منتظرا تنفيذ نفس المنطق يوما من الأيام على يد شقيق أو صديق أو عدو
متربص لأن مسرور يلازم مكانه بطلعته العملاقة وبسيفه المتعطش للدم لا يتحرك إلا
بأمر. لكن في الأثناء ضاعت فلسطين كما ضاعت قبلها الأندلس لولا بصيص أمل في شباب
جديد مقاتل يرد الصاع صاعين أطلق على كتائبه نعت (عرين الأسد) ولا يمد رأسه للقطع
كما فعل جيل اليأس مع حكومات الضفة المتعاقبة.