كلما سقط نظام موال لها بمواقع النفوذ
القديمة، تقدّم
فرنسا الإمبريالية نفسها راعية للديمقراطية في
أفريقيا، في مشهد
مسرحي مقرف من السخرية السياسية، لا يصدقه حتى الساذج المعتقد بأن الذئب يمكن أن
يرعى الغنم.
ها هي باريس الماكرة تُعبّئ “مجموعة غرب أفريقيا” وتهيئ
الجيوش والعدة الحربية لتنفيذ تدخل عسكري في
النيجر، بذريعة الدفاع عن الشرعية
لإعادة محمد بازوم إلى كرسيّه، في حيلة مكشوفة لا تنطلي على المجتمع الدولي، لأنّ
فرنسا راعية
الانقلابات تاريخيّا في أفريقيا، لم تكن يوما ظهيرا لإرادة الشعوب ولا
نصيرا للديمقراطية المفترى عليها.
التاريخ القريب يثبت أنّ الموقف الفرنسي من الانقلابات الأفريقية
لم يخضع ولا مرّة واحدة للمبادئ الديمقراطية، بل تحكمه المصالح الضيقة لدى دول
القارّة، بهدف السعي الدائم لتكريس الهيمنة بكل أبعادها والاستغلال في أبشع صوره،
حيث تؤيد بصلافة وجهٍ أيّ نظام طالما يظل خادمًا لأجندتها كيفما وصل إلى سدة
الحكم، وتشنّ الحرب على كلّ سلطة تعرض عن قبلتها ولو كانت شرعيّة.
لقد كانت الانقلابات العسكرية دومًا ولا تزال منهجا
أساسيّا لدى المسؤولين الفرنسيين من أجل تغيير النظم المتمّردة أو الحفاظ على عروش
عملائها في أفريقيا، حتّى أنّ الإحصائيات تشير إلى تنفيذ أكثر 200 محاولة انقلابية
خلال الستينيات، ظلّت فرنسا متورطة فيها، تخطيطا ودعمًا، قبل التغطية عليها
بانتخابات رئاسية صورية يخلع فيها الانقلابي بزّته العسكرية لينتحل بذلة مدنية، بل
أن 78 بالمئة من انقلابات بلدان أفريقيا بجنوب الصحراء، منذ التسعينيات، حصلت في
دول فرنكوفونية، ما يؤكد الضلوع الفرنسي بشكل ما.
ومن المعلوم أنّ فرنسا، بعدما اضطرت لمغادرة جيوشها مطلع
ستينيات القرن الماضي، ضمنت لنفسها حق التدخل العسكري عبر اتفاقيات أمنية مع دول أفريقية،
لأجل حماية القادة المغضوب عليهم شعبيّا، طالما كانوا مطيعين لها وخادمين لمصالحها
المادية والثقافية.
لذلك، لن نصدّق اليوم بكاء التمساح الفرنسي على مصير
الديمقراطية في مالي وبوركينافاسو والنيجر، بل ما يهمه، وهو يستعدّ لحرق المنطقة
مجدّدا، هو فقط تأمين مصادر النهب الطبيعي، لتبقى أفريقيا بقرته الحلوب ومنبع
ثرواته النفطية والمعدنية لتموين صناعته واقتصاده، ثم تسويق منتجاته للقارة
المتخلفة نفسها.
لنتذكّر أنّ سبع دول في غرب أفريقيا (من أصل تسعة)، لا
تزال تستعمل الفرنك الأفريقي، المرتبط باليورو، بضمان فرنسي، عملة رسمية، بينما
يطبع البنك المركزي الفرنسي العملة لصالح 14 دولة أفريقية تتعامل به حتى اليوم،
وهو وحده دليل ساطع على إحكام النفوذ الاقتصادي في المستعمرات السابقة.
ما تريده فرنسا في الساحل الأفريقي هو النفط لتوفير الطاقة
والذهب لرفع الاحتياطات البنكية واليورانيوم لتشغيل مفاعلاتها النووية، ولو كان
ثمن هذا الاستغلال هو اكتواء شعوب أفريقيا في جحيم الحروب وبقائها ضحية الصراع
الأبدي على السلطة.
قبل 10 سنوات، تعهد فرانسوا هولاند بالتخلّي عن سياسة
“فرانس- أفريك” التي هندسها جاك فوكار، بداية الستينيات، لبناء العلاقات الفرنسية
مع الدول الأفريقية المستقلة حديثا على قواعد السيطرة والولاء، عوض النديّة السياديّة
وتبادل المصالح.
مقابل ذلك، أعلن هولاند في خريف 2013، عن سياسة جديدة
قائمة على الشراكة، قبل أن تكذّب الأحداث سريعًا التزامات رئيس فرنسا، حيث نفذّت
بلاده سبع عمليات عسكرية، أبرزها “برخان” سنة 2014 في شمال مالي، إضافة إلى
“سيرفال” و”ايبرفييه” في تشاد ومالي، و”سانغاريس” في أفريقيا الوسطى وعمليات أخرى
في ليبيا وكوت ديفوار.
اليوم لم تعد باريس قادرة على استمرار نفوذها الاقتصادي
والثقافي في أفريقيا بالسلاح والسياسة العسكرية، أمام تصاعد النزعة الوطنية
المطالبة بالتخلّص من كل آثارها المسمومة، وبروز خطاب شعبي مناهض لها بقوّة، ومؤيد
لقوى دولية جديدة في المنطقة متحررة من عقدة الماضي الاستعماري، في وقت لم يدرك
فيه ساسة فرنسا أن أفريقيا تتطور في وعيها وأجيالها وقياداتها، وليس من الممكن
مواصلة التعامل معها بمقاربة أمنية استعمارية، تراهن على ولاء النخب العسكرية
والسياسية والمالية المرتبطة بها.
هذه التغيّرات الجذرية في البنية الثقافية، الاجتماعية،
والتحولات الدولية بظهور فواعل عظمى على مسرح المنطقة، هي ما يجعل فرنسا في حيرة
من أمرها ويدفعها إلى التصرف الطائش، باللجوء إلى التدخل العسكري في النيجر، كآخر
خيار لتوقيف تساقط أحجار “الدومينو” المؤذنة بنهاية الإمبراطورية الاستعمارية
الموروثة من زمن العبودية المعاصرة.
وحدها الجزائر، النزيهة في موقفها المبدئي الرافض للانقلاب
في النيجر، والمتمسكة بالنظام الدستوري فعليّا، ومن يقاسمها رؤيتها، يمكنهم
الدفاع، بإخلاص، عن مصلحة الشعب النيجيري بالوقوف ضد التدخل العسكري، لأنه سيفتح
عليهم باب الجحيم وعلى المنطقة برمتها، أمّا الوسواس الفرنسي الذي يدفع بدول
“الإيكواس” إلى الفتنة الأفريقية، فلا يهمه سوى نفوذه الضائع وكبرياءه المجروح.
(الشروق الجزائرية)