قضايا وآراء

ثراء مصر.. وحديث الشمس والنهار!

هشام الحمامي
الزراعة في مصر- جيتي
الزراعة في مصر- جيتي
في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي (ت: 1442م) ما يفيد بأن سيدنا عمر بن الخطاب سأل كعب الأحبار (ت: 682م)، اليهودي اليمني الذي أسلم وحسُن إسلامه كما تقول أغلب الآثار وكان من كبار علماء التاريخ، أنه رضي الله عنه سأل كعب عن طبائع البلدان وأخلاق أهلها، فقال: إن الله تعالى لمّا خلق الأشياء، جعل كل شيء لشيء، فقال العقل: أنا ذاهب إلى الشام، فقالت الفتنة: خذني معك، وقال الخصب: أنا ذاهب الى مصر، فقال الذل خذني معك، وقال الشقاء: أنا ذاهب إلى البادية فقالت الصحة: خذني معك..

من أجمل الأشياء في المصريين، أن صورة الحياة لديهم ترتبط بالحياة نفسها ارتباطا عميقا.. فهم محبّون للخضرة والماء والنماء والبهجة، ويرغبون في العيش الهنيء السعيد، كأنهم فرغوا من الحساب على رأي ابن خلدون (ت: 1432م) رحمه الله.. ارتباط هذه الصفات بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للمصريين موضوع تناوله كثير من الباحثين ومن زوايا أكثر..

وكان أكثرهم شهرة في ذلك العلامة الراحل د. جمال حمدان (ت: 1993م) في كتابه الأشهر "شخصية مصر".. د. جلال أمين (ت: 2018م) أستاذ الاقتصاد المعروف، وكان له حضور قوى بمقالاته التي لم تنقطع طوال حياته رحمه الله عن الثروة والاقتصاد وواقع الحياة الاجتماعية للمصريين أخذا وعطاء مع تطورهم الاقتصادي وتكوّن الطبقات الاجتماعية وفق هذا التطور، مثل كتاب: "ماذا حدث للمصريين"، وله أيضا كتاب شهير في الاقتصاد.. ويعد من الكتب بالغة الأهمية في مجاله "قصة الاقتصاد المصري من محمد على إلى مبارك".

لكن الخميس الماضي (25 أيار/ مايو) نشر برنامج "بتوقيت مصر" الذي تقدمه الأستاذة "نسمة سعيد" على قناة "بي بي سي عربي" حوارا مع د. حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل بجامعة القاهرة والمستشار الاقتصادي السابق بدولة الكويت، ليدلي برأيه حول تقرير أحد المواقع المالية المعتبرة بتصنيف مصر في المرتبة الـ32 عالميا، أنها من أغنى دول العالم، بصافي ثروة تزيد على 1.4 تريليون دولار (التريليون الف مليار).

الحديث عن ثراء مصر حديث قديم.. وأشهر من أن يُعرّف.. ومصر كان يطلق عليها "مقمحة" اليونان والرومان، أي مصدّر القمح لهما.. ومعروف أن المصريين زرعوا القمح مبكرا جدا.. قبل بناء الأهرامات
مصر فيها حوالي 17 ألف مليونير، منهم 57 شخصا يملكون أكثر من 100 مليون دولار، كما ذكر أحد المواقع الموثوقة في تقرير له عن الثروات في أفريقيا عام 2022م (موقع هينلى آند بارتنر/ تأسس 1970 في لندن)..

الحديث عن ثراء مصر حديث قديم.. وأشهر من أن يُعرّف.. ومصر كان يطلق عليها "مقمحة" اليونان والرومان، أي مصدّر القمح لهما.. ومعروف أن المصريين زرعوا القمح مبكرا جدا.. قبل بناء الأهرامات (2600 ق.م) كما ذكر لنا د. أحمد زكي رحمه الله (ت: 1975م) في عمله الكبير الذي أصدرته دار الشروق: "في سبيل موسوعة علمية".

* * *

"الثروة" أحد أهم مكونات القوة.. والاقتصاديون والسياسيون -فكرا وعملا- تحدثوا تحت هذا العنوان "الثروة والقوة" بما يكفي ويزيد.. والأمم تبحث لنفسها دائما عن مصادر متجددة للثروة التي تحقق الوفر والكفاية للبشر والقوة والريادة للوطن.. ناهيك عن أن البشر "الأكفاء الأصحاء" يمثلون في حد ذاتهم ثروة إن لم يكونوا هم نبع كل الثروات.. لذلك فقد كان الحديث المتداول مؤخرا عن "ثراء مصر".. حديث أشبه بمن قال عجبت لهذه الشمس.. تأتي حين يأتي النهار وتذهب حين يذهب..!

لا مانع إذن أن يكون حديثنا أيضا عن هذا الموضوع بما يماثل حديث الشمس والنهار..

* * *

في الثقافة الأمريكية مصطلح يُعرف بـ"القدر المتجلي"، وقد كان عنوانا ضخما في الحقيقة لمشروع الهجرة إلى الغرب الأمريكي سنة 1845م "من المحيط إلى المحيط".. غرب نهر المسيسبي، وقد نشأت حوله أدبيات وأشعار وأغنيات وموسيقى حتى كاد الأمر أن يتحول أسطورة.. وتحوّل بالفعل إلى أسطورة ولكن أسطورة حقيقية تنبع من اليد والأرض.. لا من الوهم والخيال.

لكن هناك حكاية أخرى تقول إنه في كانون الأول/ ديسمبر 1950م تم افتتاح مركز من أهم المركز البحثية في مصر (معهد فؤاد الأول لبحوث الصحراء)، فقد كان هاجس "وادى النيل الضيّق" هاجسا مؤرقا للعلماء والساسة والحكومات المنتخبة وقادة الرأي.. رغم أن سكان مصر وقتها كان 20 مليون نسمة.. تحددت أدوار ومسؤولية المعهد واختصاصه من قبل الحكومة، في كل ما يتعلق بالزراعة والمياه والإنتاج الحيواني تحت الظروف الجافة، وكان يجرى فيما جرى دراسات كثيرة عن واحات مصر الغربية (الداخلة والخارجة والفرافرة والبحرية)..

كان هاجس "وادى النيل الضيّق" هاجسا مؤرقا للعلماء والساسة والحكومات المنتخبة وقادة الرأي.. رغم أن سكان مصر وقتها كان 20 مليون نسمة.. تحددت أدوار ومسؤولية المعهد واختصاصه من قبل الحكومة، في كل ما يتعلق بالزراعة والمياه والإنتاج الحيواني تحت الظروف الجافة، وكان يجرى فيما جرى دراسات كثيرة عن واحات مصر الغربية
* * *

والمنطقة تغيّر اسمها بعد حركة الضباط 1952م إلى "الوادي الجديد". هذه الواحات تشكل نصف مساحة مصر تقريبا! (مصر مساحتها مليون كم، والواحات أو الوادي الجديد يشكل منها 458000كم)..

في هذا النصف يعيش 350 ألف نسمة فقط، والنصف الآخر (وادي النيل) يعيش 105 ملايين.. ربعهم في القاهرة وحدها.. بما يعادل مساحة تقل عن 3 أمتار لكل مواطن، بينما الوادي العظيم الجديد مساحة الفرد فيه 3000 متر لكل مواطن!

وفي آخر دراسة أجراها المركز عن المياه الجوفية (منشورة على صفحته الإلكترونية) أعلن أن الصحراء الغربية (كلها) فيها كنوز ثمينة، وأهم هذه الكنوز هي آبار المياه الجوفية التي تنتشر تحتها وتمد البلاد سنويا بـ7.5 مليار متر مكعب من المياه (20 في المئة تقريبا من حصة مصر من نهر النيل). ثروات الوادى الجديد.. الزراعية والسياحية والمعدنية فيها ما يكفل لمصر (كلها)عيشا وفيرا رغدا.. وهذا وجه واحد فقط من الوجوه السبعة للثراء والثروات في مصر.. الثروة البشرية الزراعية الحيوانية السياحية المعدنية البحرية المناخية (الشمس والرياح).

لم يحدث عندنا مثل ما حدث في الغرب الأمريكي.. الأمر اختلف كثيرا، ولا أدرى لماذا لم يتوقف أساتذة وعلماء الاجتماع السياسي عند ظاهرة تعثّر المشروعات الكبرى (الوادي الموازي/ توشكى مثلا..) ونحن في الحقيقة نذكرها ونذِكًر بها، لنعتبر بها، لا لننسحق ونٌحبط بأخطائنا فيها.

* * *

هل هي مشكلة "الإنسان" وأخلاقه وإتقانه وتدريبه وجديته وإجادته؟.. في الإسلام مثلا، نقول مجازا أنه في "البدء كان الإنسان".. الذي يتعلم من فكرة التوحيد المطلق للخالق معنى "الحرية والكرامة والتقوى".. والثلاث "مرتكز" القوة والعطاء لدى أي إنسان صحيح.. يعيش في مجتمع صحيح..

الأمر هنا يحتاج إلى وقفة طويلة خاصة بعد غياب الثقة بين المجتمع والدولة (السلطة التنفيذية)، كما وأن الناس انصرفوا عن كل ما يجعل منهم وحدة اجتماعية قوية.. تتشكل فيهم وبهم وحدات اجتماعية تملأ فضاء الوطن، وتتحدث بصوت مسموع لدى الجهات التنفيذية
ويبدو لي أن الأمر هنا يحتاج إلى وقفة طويلة خاصة بعد غياب الثقة بين المجتمع والدولة (السلطة التنفيذية)، كما وأن الناس انصرفوا عن كل ما يجعل منهم وحدة اجتماعية قوية.. تتشكل فيهم وبهم وحدات اجتماعية تملأ فضاء الوطن، وتتحدث بصوت مسموع لدى الجهات التنفيذية.. تساهم في إقرار التشريعات والضرائب.. الخ.

* * *

قد تكون مشكلة "الإدارة" بعقلها وفلسفتها وصدقها وأمانتها ونزاهتها وتعففها، وقد تحدّث في ذلك أكثر الناس وكل أدلى بدلوه، ودلو جيرانه أيضا.. ولم يحدث شيء ولم يأت أحد..!! على رأي صوفي في قصة "ذو اللحية الزرقاء" للفرنسي شارل بيرو (ت: 1703م)، والتي يبدو أننا سنردد معها سؤالها طويلا، السؤال الذي تحوّل إلى مَثَل شعبي حين يحتار الحائرون، في أمر تبلغ بهم الحيرة فيه مبلغا بالغا، فتقول صوفي: آن.. يا أختي آن.. ألا ترين أحدهم قادما؟ فترد عليها أختها: لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء..!! وفي النهاية لا نجد في أيادينا إلا أيادينا..! وقد لا نجدها يوما ما.

فهناك من يقول: إن سكان هذه البقعة من الكوكب، يجب أن يعيشوا على حافة الهاوية، بين الحياة والموت.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)