آراء ثقافية

بين "سحر الخيال" وجاذبية وصدمات الواقع: هل على الدراما أن تنقل الواقع كما هو؟

جمهور يتابع الدراما الواقعية "الصادمة" ويندّد بها وجمهور يتابعها وتروق له وجمهور يقاطعها
جمهور يتابع الدراما الواقعية "الصادمة" ويندّد بها وجمهور يتابعها وتروق له وجمهور يقاطعها
جرائم قتل بشعة: فقد يقتل الأب ابنه وقد تقتل الزوجة زوجها. تفشي العنف بكلّ مظاهره في تفاصيل الحياة اليومية. هجوم وسرقة وقتل وسفك للدماء وسلب واعتداء واغتصاب وترويج مخدرات وعنف في كلّ أشكاله وبكل ما يبيحه منطق: "الغاية تبرّر الوسيلة".

يسود الفضاء العام الواقعي والافتراضي، ممارسات العنف والإجرام وهي صادمة في غالبيّتها. فلماذا حين تنتقل هذه القضايا إلى التلفزيون من خلال الدراما تتحوّل إلى محلّ جدل ورفض واستنكار وتعتبر تشويها للواقع؟ أليس دور الدراما طرح قضايا المجتمع من نظرية المسؤولية المجتمعية؟ أم أن الفن يتطلب "نعومة" في المعالجة تحتّم عمليّة غربلة تبعد عن "كاميرا" المخرج كل ما هو مزعج وصادم؟

الإشكال الذي يعترضنا في معالجة علاقة الدراما بالواقع. هو أنّنا لسنا أمام جمهور واحد وإنّما أمام جماهير. فجمهور يتابع الدراما الواقعية "الصادمة" ويندّد بها وجمهور يتابعها وتروق له وجمهور يقاطعها. وجمهور يتأثّر بالرأي السائد والمتداول على مواقع التواصل الاجتماعي وهو الجمهور التابع. ويمكن أيضا تجزئة هذا الجمهور من منطلق النخبة بما هم النقاد والأكاديميون والصحافة وأهل المجال. والجمهور الذي يضمّ عامّة الناس.

ولكن هذا الإشكال قد نجد له مخرجا في نقطة الالتقاء بين كلّ هذه الجماهير وهي الفرجة في كل الحالات والظروف ومهما كان الموضوع وردّات الفعل عليه. وغالبا ما تستقطب الأعمال التي تقوم على السلوكيات الصادمة الجمهور وهو طبعا ما يروق لمشاهير السوشيال ميديا والممولين. فالمشهور لا يهتمّ إن كانت المتابعة سلبية أو إيجابية، فالأهمّ من كل ذلك عنده هو الرقم كم؟


بعيدا عن هوس المشاهير بالأرقام، فنحن مدعوون إلى التفكير في ديناميكية العلاقة بين الدراما والواقع، فربّما توصلنا إلى تحديد وظائف جديدة للدراما وتثويرها في سياق مختلف عن السياقات البشرية السابقة وخاصة مع الثورة الرقمية التي كلّست المشاعر الإنسانية وجعلت من البشر أكثر وحشية وانحرفت بالسلوكيات الاجتماعية إلى أقصى حدّ من النزعة الحيوانية.

ونحن مطالبون بالعودة إلى ثلاثة أبعاد أساسية لمفهوم الدراما: أوّلا الدراما كفن، الدراما كمضمون يعالج واقع المجتمع والدراما كأداة اتصال عبر التلفزيون، لها التزاماتها والسؤال المطروح الآن كيف يمكن الموازنة بين كلّ هذه الالتزامات؟

اظهار أخبار متعلقة


الدراما كفن

الحديث عن الدراما من الزاوية الفنية هو التركيز على البناء الدرامي للنص وبناء الشخصيات والحوار والترميز في التعبير عن الموضوع المطروح وكل ما يشكّل البنية الفنية لهذا العمل. في العادة أو الفكر الذي يروّج كلما تعلّق الأمر بعمل فني أهمية الرمز والترميز والابتعاد عن المباشرتية حتى في طرح القضايا الواقعية. فالدراما فن له جماليّاته مثل بقية الفنون ومن بين شروط الجمالية تشكيل صور قادرة على أن تحلّق بالعقل وتفتح له بوّابات التفكير في القضية المطروحة وليس استهلاكها بطريقة سطحية. ولكن ما نلاحظه في الأعمال الدرامية المقدمة أنّها تعيد تصوير الواقع في جوانبه السلوكية الوحشيّة دون إحداث أي موازنة مع الجوانب الأخرى. فتكتفي بتقديم الأزمة وعزلها عن سياقاتها وإخضاعها للحاجة التي تسكن فريق الإنتاج لإحداث الإثارة وليس للحاجة فعلا للمعالجة بإدماج الأزمة أو الظاهرة في بيئتها. الطرح الأحادي يستفز النخبة ويرجّ الجمهور ولكن ليس تلك الرجة التي تحفّزه على التغيير. من هنا نتوصّل إلى أنّ الإشكال ليس في المباشرتية أو الترميز ولكن الإشكال الحقيقي كيف نطرح القضية داخل بيئتها وتفاعلاتها مع العناصر المرتبطة بها؟ وهذا مرتبط بمدى الجدية والحرفية في كتابة النص الدرامي أو تشكيل عناصر القصة.

في هذا السياق وفي تصريح لـ "عربي21" تقول السيدة بشرى جعفر أبو العيس، مساعدة مدير عام دائرة السينما والمسرح (العراق): "الواقع بذاته وثيقة صادمة وجافة، وما نحتاجه لإعادة ترتيب تلك الوثيقة لتكون مقبولة إضافة سلسلة من العوامل. إضافة تجعل من الوثيقة مجرد أثر صغير تجري عليه عمليات كبرى لا لتغييره بل لتجميله وتحسينه بما يضفي عليه طابع القبول بل طابع التلهف لإعادة اجتراره وتكراره دون الملل منه".

وتذكر محدّثتنا أنّ من بين هذه العوامل: "ضبط لعبة الصراع وتناقض الأفعال لجعلها متكافئة بغية شد المتلقي وإعادة تنظيم الأحداث لا بهدف إيضاح الوثيقة كما ولدها الواقع بل بهدف تناسبها في التسلسل الافتراضي الذي يلده المبدأ الدرامي وزيادة في الشحن العاطفي للتأثير سلبا أو إيجابا وإعادة ضبط الزمن فنيا وليس كما هو في وثيقة الواقع فيزيائيا. وإعادة ضبط الشخصيات بما يتناسب وتعظيم الخير أو تعظيم الشر بغية تناسب التقابل بين الطرفين. وتقديم معالجات فكرية أو فنية أو جمالية فيما يخص وثيقة الواقع.. وتقديم معالجات في الرسالة التي ينبغي لها أن توجه قيم المتلقي نحو الفضيلة ونبذ الشر أو الضعف الذي من شأنه أن يحرف السلوك السوي أو يقلب القيم نحو الرذيلة والتشويق وتطهير المتلقي من أدران الشرور أو الأخطاء التي تسيء إلى نفسه أو علاقاته أو قيمه".

ويتفق زين العابدين المستوري (ممثل وسيناريست من تونس) مع ما تقوله الدكتورة بشرى من العراق، إذ بالنسبة له: "لا يجب على الدراما نقل الواقع كما هو، لأنّ الخيال هو سلاح الكاتب والواقع هو فقط مصدر استلهام ومصدر للأفكار". ويضيف المستوري: "لا يمكن نقل العمل الدرامي الواقع كما هو وإلاّ سيصبح أقرب لشريط أنباء أو مقال صحفي يخلو من خيال وطرح الكاتب والمخرج".

الدراما كمسؤولية مجتمعية

إذا اعتبرنا أنّ الدراما كفن عليها أن تخضع لجماليات معينة أو يتمّ تجميلها كما تقول الدكتورة بشرى ألا يصطدم ذلك مع المسؤولية المجتمعية للدراما؟ ألسنا محتاجين في بعض القضايا أن نعتمد الواقعية بدلا من "التهويم" و"التطويح" بالمتفرّج في خيالاته كما التي تبعده خلال عملية التلقي والتأويل عن أساسيات الرسالة المراد إيصالها من خلال أيّ عمل درامي، إلاّ إذا كان طبعا هذا العمل أو ذاك خاليا من أي رسالة.

يقول المسرحي يوسف هنون من المغرب في تصريح لـ"عربي21": "الفن يحمل بين طياته رسالة مهمة يبعث بها لجمهور المتلقين من خلال وضع أصابعه على مواطن الخلل في كثير من المواقع، ولفت نظر من بيده القرار للانتباه ومحاولة إصلاح ذلك الخلل من خلال ما يوضحه الكاتب في نصه المسرحي أو التلفزيوني، مبينا أن الفن المسرحي أو التلفزيوني مرآة عاكسة لهموم وشجون المجتمع، حتى لو كان ذا طابع كوميدي فإنه يحمل بين جنباته العديد من الإسقاطات على بعض مواقع الخلل. بالتالي فالدراما تحمل رسالة نقل الواقع بكل همومه ومشاكله وإيجابياته وسلبياته بشكل فني قابل للنقاش من خلاله يمكن طرح أسئلة موضوعية في إطار البحث عن حلول آنية أو بعدية".

الدراما رسالة اتصالية

الدراما فن ومسؤولية مجتمعية وأيضا رسالة اتصالية بل قبل الرسالة هي محمل وأداة اتصال تشكّل جزءا من التلفزيون. وحين نطرح الدراما في علاقة بالتلفزيون فإننا نضعها أيضا ضمن إطار يحتويها وفي الآن ذاته له شروطه ونظامه المختلف عنها. الإشكال أنه غالبا ما يخضع منتج العمل الدرامي وكامل فريق العمل إلى شروط القناة التي ستقتني المنتج بل ويقبل حتى بعمل رقابي مسبق على العمل وإدخال مشاهد لا تخدم أحيانا بناء النص الدرامي استجابة لطلب المشهور خاصة مع ظاهرة الإشهار داخل العمل الدرامي والتي باتت متفشية في جلّ الإنتاجات. كيف إذن لهذه الدراما أن تحافظ على الرسالة التي توصلها عبر التلفزيون كقناة اتصال وكيف يتخلص من "عبء" حراس البوابة الذين يقومون بمراقبة العمل ويفرضون سلطتهم في تركيبه وفي الصورة التي يخرج بها للجمهور. ففي نهاية الأمر وبغض النظر عن حرفية الكتابة وأداء الممثل هناك عوامل أخرى تؤثر على كيفية تلقي أي عمل درامي نذكر من بينها: وقت البث، السياق العام، علاقة القناة التلفزيونية بجمهورها، مدى ثقة هذا الجمهور في إنتاجات هذه القناة أو تلك، شعبية القناة وعوامل أخرى تؤثر على نمط التلقي.

فالجمهور جماهير وعملية التلقي ليست في معزل عن مختلف السياقات والـتأويل يخضع لها حتما.

إنّ الدراما بشكل عام: "مهمة في نشر الثقافة وما تشكل الدراما من جذب واهتمام لكل الجمهور المتلقي بكل الفئات والأعمار، معبرا عن أن الدراما بشقيها المسرحي والتلفزيوني، أصبحت تشكل عاملا تثقيفيا وترويحيا في آن واحد للأسرة" حسب الفنان يوسف هنون. ولكن كيف يتمّ ذلك أو ما هو الأسلوب الذي يضمن الموازنات بين الأسلوب الفني والمضامين التي يجب ألاّ توغل في المباشرتية فتفقد العمل قيمته الفنية أو توغل في الخيالات فتنحرف بنا عن الواقع. تظل المسألة مرتبطة بموازنات على كل مساهم في حلقة إنتاج العمل الوعي بها.

التعليقات (3)
نسيت إسمي
الإثنين، 29-05-2023 09:15 م
8 ـ (أيام زمان على التلفاز) القناة الأولى: و لا ننسى واحدة من أجمل المسلسلات المفضلة لدي مع "كين وال" شرطي في المافيا 1987" فيني تيرانوفا، لتزوير هوية مزورة كمجرم متشدد الذي أطلق سراحه للتو من السجن، ينضم إلى عائلة مافيا سوني ستيلجراف. من العالم السفلي على الأقل هذا ما تؤمن به والدته وجميع أصدقائه .. لكن فيني هو في الواقع وكيل فيدرالي سري، يحاول بكل الوسائل جمع المعلومات عن البيئة المحيطة به، على أمل رؤية القطط الكبيرة التي يشاهدها تسقط .. وحده شقيقه بيتر يعرف أنه شرطي متخفي وسط الجريمة .. القناة الثانية: "الشر من قبل الشر1986" إنهما خمسة شبان تتراوح أعمارهم بين 16 و 17 عاماً نشأوا في الأحياء الفقيرة في ميامي و لكن عندما يقرر خمسة من الجانحين الصغار تحطيم الرقم القياسي فإن فرصتهم الوحيدة للبقاء على قيد الحياة هي محاربة الشر من أجل الشر و دخلوا السجن و تم نفيهم و إلقإهم في مستنقع في الغابة. و هناك يمنحهم جو تايجر ، أخصائي إجتماعي ، فرصة متوقعة لتعويض أنفسهم : فهو ينظم لهم دورة تدربية في الكوماندوز مركز إعادة تأهيل في إيفرجليدز. إنهم مجبرون على القتال ضد العناصر و ضد أنفسهم. ستستمر إعادة دمجهم في منزل تجريبي في ميامي حيث يصعب مقاومة الإغراأت. خمسة مجرمين شبان يتبعون برنامج إعادة دمج في الجبال ، بالعودة إلى فلوريد ، واجهوا كريم ، زعيم المخذرات المحلي.
نسيت إسمي
السبت، 27-05-2023 03:50 م
7 ـ (سينما شعب) فيلم "الجبل من أروع أفلام المغامره التي تحبس الأنفاس 1956" إخراج: إدوارد ديميتريك من بطولة العملاق الكبير: سبينسر تريسي و يشاركه روبرت واجنر وكان مازال شاباً صغيراً في هذا الوقت الفيلم يحكي عن أخوين يعيشان في سويسرا، الكبير فيهم قام بتربية الصغير ورعايته حتي كبر، ولكنه تميز بالأنانيه وحب الذات، ولم يكن يشكر لأخيه ما يفعله من أجله و قد كان سبنسر "الأخ الكبير" معروفا منذ شبابه أنه متسلقاً محترفاً للجبال، وقد اعتزل هذا الأمر بعدما انزلق أحد السياح المتسلقين معه ومات … عد ذلك يصادف أن تصطدم طائرة ركاب آتيه من الهند بقمة جبل الألب وتتحطم، فيفكر الأخ الأصغر في أن أسرع وسيله للثراء هي سرقة جثث الركاب خاصة وأن جميع محاولات الإنقاذ فشلت نتيجة صعوبة تسلق هذا الجبل ومحاولة الوصول له عن طريق طائرات الإنقاذ.. و عندما يطلب الأخ الصغير من الأخ الكبير أن يتسلق معه لهذه المهمه .. يصدم ويحتدم الجدال بين القيم والمبادئ وبين المنفعه والأنانيه ، وأخيرا يوافق الأخ الكبير اصطحابه خوفا عليه من أن تنكسر عنقه لعدم خبرته بعملية التسلق و هنا تبدأ الأحداث التي تحبس الأنفاس، من عملية تسلق الجبال نفسها، الي الوصول الي الطائره واكتشافهم أن أحد الضحايا مازالت حيه ولكنها مصابه، ويقرر الكبير أخذها لأسفل للمستشفي بينما الصغير يتجه إلي تجميع الأموال والمصوغات الخ … ويدخل مع أخيه في جدال جديد بأنها يجب تركها لتموت وإلا اكتشفت السلطات أنه سرق جثث الركاب فيعاقب… فلا يملك أخيه إلا ضربه بعنف وأن يسبقه بالمصابه في النزرول، ثم يحاول الأخ الصغير كريستوفر اللحاق به، وتحدث المفاجأه بأنه لا يسمع كلام أخيه ويسير في طريق وعر وتهبط الأرض من تحته و يقع ليموت وسط صدمه وحزن من أخيه الأكبر، ويعود الكبير الي القريه بالمصابه ويهنئه الناس ويعزوه في أخيه … الحقيقه أن الفيلم مثير جدا، والمناظر أكثر من خلابه لأنه تم تصويره بسويسرا … وإني لأرجو من صناع السينما الحاليه مشاهدة مثل هذه الأفلام ليستفيدوا من مقومات الفيلم الناجح بدلاً من الإنهيار السينمائي الذي نراه حالياً .. الفيلم الثاني بقلم منار خالد فيلم مصري مع أحمد زكي "طائر على الطريق1981" للبشر صفات وللطيور صفات أخرى، وأستمع إلى شعر جاهين حين قال في الطيور: "يا طير يا طاير في السما... يا بختك لا فارق معاك حاجة وعايش براحتك، لو عرفت إيه اللي فينا عمرك ما هتبص تحتك"، ليكون بهذه الكلمات معبّراً عن رفاهية الطيور مقارنة بالبشر، يحسد الطير على هنائه بصفاء ذهنه وهدوء باله، أما عن رؤيته للإنسان، فغالباً ما كان يراه حزيناً مكبلاً، يختلف عن الطائر الهانئ المستمتع، وعندما نعته قال على سبيل المثال: "يا حزين يا قُمقُم تحت بحر الضياع... حزين أنا زيك وإيه مستطاع؟! الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع! الحزن زي البرد زي الصداع". وهذا أصدق ما يمكن قوله عن أحمد زكي، ولكن دون النظر في كل رباعية منهما على حدة، بل إذا دمجنا الأبيات معاً نجده فيها: شخص يجمع بين الشكل البشري والروح الطائرة، عاش بين كل شيء ونقيضه، بين العصبية والهدوء، الإحساس الجارف والمنطق، الحُلم والواقع، بدى منظماً وبداخله آخر مشتت، أحب الوحدة وسئم منها، عشق المرأة ولم يعش معها، عاش ورحل وكأنه طائر معلق بين السماء والأرض، أبحر وتفنّن وقدم شخصيات تحمل منه ويحمل منها، ومع ذلك فهي نابعة من تقمّص كامل لا تدخّل فيه لشخصه. تعتبر شخصية فارس في فيلم "طائر على الطريق"، هي أول شخصية في سلسلة فوارس المخرج محمد خان، حيث البطل الحالم المحلّق الذي أكمل مسيرته فيما بعد بين فيلمي "الحريف" و"فارس المدينة"، وفارس هو باختصار شديد لا يمكن أن ينصفه وصف أصدق من كلمات صلاح جاهين، عندما قال: "أحب أعيش ولو في الغابات، أصحى كما ولدتني أمي وأبات، طائر... حوان... بشر... بس أعيش، محلا الحياة... حتى في هيئة نبات". فذلك هو فارس بكل صدق، سائق البيجو الأبيض الذي يتخذ سيارته مأوى له، يستغنى عن المستلزمات الاستهلاكية من شقة وأثاث، ويكتفي بها منزلاً يسكن وينام فيه، يستخدم الطبيعة دائماً وأبداً، وجميع المشاهد التأسيسية الأولى للشخصية تدل على ذلك، بين نومه في سيارته واستحمامه في بحر الإسكندرية عند الاستيقاظ، ليكون بذلك هو الطائر المعتمد على الطبيعة. فلم يؤسس للشخصية كفقير مُعدم اضطر أن يعيش هذه الحياة فحسب، هو فقط شخص وحيد، فقد الأم والأب والجدة، وما كان له سوى أن يختار حياته بالشكل الذي يرضيه، وفي الوقت ذاته هو ينتمي لبني البشر، يتسكع على أرجله في الشوارع ويتردد على محلات الفول والطعمية والكافيتريات، له علاقات اجتماعية لكنها علاقات استثنائية. في بداية الأمر يظهر رفضه لإقامة علاقة مع امرأة متزوجة، ليؤكد على وضوحه وعدم رغبته في التورط في مشكلات هو في غنى عنها، ليؤسس للشخصية كرافض لكل ما يقيده أو يحجم طيرانه. أما عن الشخصيتين القريبتين منه فهما، عصمت "آثار الحكيم" الفتاة التي يعاملها معاملة الأخ والصديق الرجل، ذات الشعر المجّعد والبدلة الجينز والتيشرت المخطط، تشبهه في حيويته وجنونه، ثم علاقته بذلك السائق الذي فقد سيارته على طريق مصر إسكندرية، وبات يصلحها لسنوات عدة آملاً بعودتها للحياة. فهذه الشخصيات هي القريبة من شخصية فارس، ولم يظهر له مشهد واحد به علاقة قوية بينه وبين أي شخص آخر سواهما، قبل لقائه بحبيبته، ليكون فارس بذلك شخصاً يسير على قدمين، هيئته بشرية بينما في روحه طائر لا نعلم فصيلته، وكأنه طائر يشمل جميع الطيور التي تجد في الطيران حريتها، وتجد في النمطية أسْرَها. لازم فارس اللون الأبيض دلالة نقائه وصفاء قلبه، وأول ظهور للون الأبيض يظهر على السيارة التي يستخدمها فارس كوسيلة للطيران والنوم والحياة، وبياض آخر في لون الطائر الذي لم يُفصح عن فصيلته، هو فقط طائر أبيض يظهر في المرة الأولى، عندما يقرر فارس بشكل جدي أن يغير مساره، يتجرد من طيرانه ويواجه الحياة كبني البشر. يريد أن يتزوج من امرأة مازالت متزوجة من غيره، محاولاً تخليصها من ذلك الزوج الآثم والعيش معها في منزل عادي، تلك الحبيبة التي أختارها وأختار أن يحارب من أجلها ويقف ليتصدى معها الظلم الواقع عليها، فيصدم فارس طائراً أبيض بسيارته، تمهيداً لمصيره المُنتظر حول موت الطائر الكامن بداخله إذا تقدم نحو ذلك الفعل، ويأتي المشهد على شكل حادث غير مقصود، وهذا هو حال الشخصية بالفعل التي تسلك مسلك قتل الطائر المحلق بداخله دون قصد منه، ومن ثم مشهد آخر لنفس الطائر الذي يحلق بين سرب كامل من الطيور البيضاء، عندما يتصور فارس أنه مُقدم على خطوة جديدة سوف تقربه حبيبته أكثر. في مشهد يظهر فارس وهو يحاول أن يمسك بالطائرة الورقية السابحة في الفضاء، ويعتبر ذلك المشهد دلالة جديدة تعطي الشخصية نفسها تنبيهاً للعزوف عن ذلك الفعل، الذي إذا أستمر فيه ستطير روحه منه لأنه لم يتمسك بها أمام حبه، في مشهد بديع من محاولات مسكه لطرف خيط الحبل الواصل بالطائرة إلى أن تفلت منه وتُفقد. لقطات توضح تعلقه بين السماء والأرض موت الطائر عند اصطدامه بالواقع من مشهد فيه مغامرة بحياته، وتصدى لمن حاولوا أن يسرقوا منه السيارة ذات يوم على الطريق، ليكون ذلك التخلي عن السيارة ومحاولاته إنقاذ ذاته وقتل صفة المغامرة فيه وتفضيله للنجاة بنفسه تاركاً وسيلة طيرانه، هي نهايته الحقيقية التي لا تقبل له أن يعيش دون طيران ومغامرات، فتصدمه سيارة أخرى وهو يعبر الشارع ليصبح ميتاً على الطريق، بعدما كان طائراً محلقاً فوقه.
نسيت إسمي
الجمعة، 26-05-2023 02:53 م
'' بعيداً عن ميكيافيلي قريباً من إبن خلدون '' 1 ـ (وعودة إلى إبن خلدون) الذي فقد أبويه في مطلع صباه بسبب الطاعون، والعديد من أساتذته، وكذلك عائلته وهي مبحرة لتكون معه في مصر. هذا العالم العربي إهتم بالسلوك البشري الفردي والجمعي، ووضع نظريته في دراسة المجتمع وفقاً لمنهج علمي واضح لا يختلف كثيراً عن مناهج الدراسات العلمية المعاصرة، فأحدث ثورة فكرية وثقافية وأطلق آليات التفاعل المبدع مع البيئة والمجتمع. وأحيانا يبدو وكأنه قد فسر علاقة الأفكار بالسلوك وبالحالة النفسية للفرد والمجتمع، وهو دليل على أن الأمة تكنز طاقات إبداعية ومعرفية أصيلة، فعلينا أن لا نبخس بضاعتنا، ونرى أنفسنا بعيون العزة والثقة بالحاضر والمستقبل، وبأننا حتماً سنكون!!. 2 ـ (رسائل سلبية وراء المسلسلات الاجتماعية) أصبح من التقليدي أن تعرض المسلسلات لنا شخصية أخرى لفتاة متحررة تسير في الشارع و هي متبرجة كاشفة الصدر و الساق و نراها أمام زوجها ترتدي أجمل الثياب و أكثرها فتنة و تضع على وجهها الكثير من مساحيق التجميل و تمازح زوجها و تداعبه و تنهال عليه بكلمات الحب و الغزل ليلاً نهاراً. و في مشهد كهذا بتنا نراه بكثيرة في مسلسلاتنا و أفلامنا، هناك العديد من الأفكار السلبية المقصودة و إن لم يصرح عنها ظاهرياً و التي تستقر في العقل الباطن لأبنائنا و بناتنا، فأنت أيتها الزوجة إياك و الالتزام و التدين حتى و إن لم يكن على هذا القدر المبالغ فيه في المسلسلات. لأن نتيجته قد تكون ملل زوجك منك و اقترانه بامرأة ثانية. و أنت أيها الشاب إياك و الاقتران بفتاة ملتزمة لأن حالك ستكون كما شاهدت و ستعيش في ضيق و نكد مدى الحياة، فسارع إلى الاقتران بالفتاة المتبرجة المتحررة لأنها ستؤمن لك كل السعادة. و هنا أريد أن أهمس في أذن كل شاب لأقول له لا تصدق ما ترى، فإن الفتاة الملتزمة التي ترتدي الزي الإسلامي، أمام الناس لا تغفل أبداً عن حقوق الزوج فهي تتجمل أمامه و تتزين و تبادله أطراف الحديث بود و محبة و ترعاه و تسعده ربما أكثر بكثير مما تكون عليه المرأة غير الملتزمة، ذلك لأن هدفها إرضاء الزوج لنيل رضا الله، فلا تصدق أبداً ما تصوره المسلسلات و الأفلام عن تعقيد و تزمت المرأة الملتزمة. 3 ـ (مشاكل الشباب) ما هي المفاهيم الخاطئة التي يلجأ إليها المراهق لإثبات رجولته؟ محاولات إثبات الذات و إصراره على رأيه .. القسوة على الأهل ظناً أن القسوة من صفة الرجولة .. معاكسة الفتيات و مغازلتهن .. ظاهرة التدخين لدى المراهق. 4 ـ (أخبار بين قوسين) ظهور فئة من المحللين الذين ينعتون أنفسهم بالاستراتيجيين والجيوسياسيين يتبارون في تمجيد مشاريع هشة للدولة من دون ضمير أخلاقي وأكاديمي ويعمّقون من الخلل بدل الإصلاح. 5 ـ (الغاية تبرّر الوسيلة) لا شيء يعدل غرور الإنسان و ذاتيته في بعض الأحيان! فهو يرى نفسه دائماً جديراً بأفضل الأشياء، فإذا حالت بينه و بينها حوائل العرف و العدل و حقوق الآخرين عيله. لم يتورع في بعض الأحيان عن أن يستخدم الأساليب الميكيافلية في الحقائق ليسوغ المنطق المعكوس لنفسه و للآخرين، لتحقق رغباته و أهوائه. 6 ـ (أصنام الحياة) «صنم المسرح» هو العنوان الذي أطلقه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون "1561ـ1626" على الآراء والتقاليد والعناصر الثقافية الأخرى، التي نرثها عن أسلافنا، وتسهم في تشكيل الجانب الأبرز من ذهنيتنا، أي خلفية سلوكنا وتفكيرنا في الحياة والأشياء. كلنا نتأثر بتراث الأسلاف، فهو الوسط الطبيعي لحياتنا المبكرة. وهو الذي يربطنا بالأشخاص الآخرين في محيطنا العائلي، منذ لحظة ولادتنا. وحين نشبُّ عن الطوق، ونبدأ في التعرف على العالم خارج إطار العائلة، عندها نتعرض لمصادر تأثير أخرى، أطلق عليها بيكون اسم «صنم السوق». «صنم السوق» هو ما نسميه اليوم الرأي العام أو الثقافة العامة، أي الانطباعات الإجمالية التي يحملها غالبية الناس، وطريقة تعبيرهم عن مواقفهم تجاه ما يحبون وما يكرهون، ومنها أيضاً نظرتهم للآخرين: الزعماء والشخصيات المشهورة ومصادر التأثير الثقافي، وكذا نظرتهم للحوادث والنزاعات والقضايا المثيرة للاهتمام. «صنم المسرح» و«صنم السوق» اثنان من أربعة أصنام، اتخذهما الفيلسوف نموذجا ًتحليلياً لفهم حركة العقل البشري، والطريقة التي يتّبعها في تفكيك الأشياء وإنتاج المعاني التي تعيد ربطها بحركة الحياة. كان بيكون يسعى للإجابة عن سؤال في غاية الجدية، نلخصه على الوجه التالي: حين نفكر في موضوع، هل تعمل عقولنا بصورة مستقلة، فتنظر للأشياء نظرة محايدة. أم أنها على العكس تعمل كمرآة تكثف ما يوجد في البيئة الاجتماعية، وتقرأ الخط الجامع فيما بينها، ثم تعيد إنتاجه على شكل قاعدة أو فكرة؟ حاول بيكون والعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين جاءوا من بعده، وضع خط يميز ما هو نتاج حقيقي للعقل، أي ما نسميه التفكر، عما هو مجرد تكرار لما يعرفه الناس وما اعتادوا عليه. حاول هؤلاء المفكرون إيضاح أن العقل لا يعمل في فراغ، بل هو عرضة للتأثر بعوامل مختلفة، بعضها نابعٌ من داخل الإنسان "مثل حاجاته الشخصية وهمومه وميوله ونتائج التجارب التي خاضها بنفسه"، وبعضها الآخر هو انعكاس للمعارف والمواقف والهموم الدائرة في المجتمع، التي توجب على أعضائه أن يتبنوا منها موقفاً منسجماً مع التيار الاجتماعي الأوسع. بعبارة أخرى، فإن عقل الإنسان من حيث المبدأ ابن بيئته. لكن هذا الأساس لا يبقى على الدوام. بقدر ما ينفتح الإنسان على أجواء مختلفة، ويلتقي مع أشخاص جدد، ويقرأ أفكاراً غير مألوفة، فإن عقله سيبدأ باكتشاف ذاته المستقلة عن تأثيرات المحيط وتراث الأسلاف. في هذه المرحلة يتخذ العقل دور المحقق الذي يسائل ما استقر في تلافيف الذاكرة، ويجادل ما يتوجه إليه من الخارج، قبل أن يقبله أو يرفضه. هذه هي مرحلة الانعتاق والتحرر الداخلي، التي ينبغي لكل إنسان أن يجاهد كي يبلغها. وهي مرحلة لا تخلو من عسر، بل كفاح مرير للتحرر من هيمنة القناعات التي ترسخت في ذهن الإنسان، وتحولت إلى بديهيات لا يفكر فيها الإنسان ولا يسائلها، وأشياء ارتبطت بها مصالحه وعلاقاته ونظام معيشته، فليس من السهل أن يتنكر لها أو يخاتلها. هذه هي الأصنام التي سماها بيكون «أصنام المسرح» و«أصنام السوق». من المهم أن نفهم جيداً هذا السياق، لأننا سوف نواجه اليوم أو غداً تلك الأسئلة العسيرة. نحن بحاجة لتوجيه الأسئلة الصحيحة إلى أنفسنا قبل الغير، الأسئلة الضرورية لتنوير أنفسنا وعقولنا، سواء اقتنع الآخرون بها أم لا. بقلم د. توفيق السيف.