لم تكن
الانتخابات التركية، البرلمانية والرئاسية،
التي أجريت في 14 أيار/ مايو 2023 حدثاً عابراً في التاريخ السياسي التركي، ولا مجرد
انتخابات تتنافس فيها البرامج والأحزاب على السلطة! لكنها تأتي تتويجاً لمائة عام
من الصراع بين مشروعين، على الرغم من مشاركة تسعة وثلاثين حزباً سياسياً، في 28
قائمة انتخابية، تكتّلت تحت
خمسة أحلاف، لكلّ حلفٍ منها خلفيّته الأيديولوجية
ورؤيته السياسية ومنظوره الاجتماعي وتطلعاته المستقبلية.
الصراع الانتخابي بين معسكرين:
لا تخرج الانتخابات التركية الأخيرة عن أن تكون بين
معسكرين اثنين، رغم كثرة الأحزاب وتعدّد الشعارات وتنوّع الطروحات واختلاف الرؤى
والبرامج:
- معسكر يريد العودة بتركيا إلى عهد الكمالية
العلمانية التي ترى في أوروبا نموذجاً تسعى إلى تجسيده والارتباط به والسير على
هداه، دون أن تقيم وزناً للدّين أو اعتباراً للقيم. ومن أجل ذلك يضحّي هذا الفريق
بكل شيء، حتى ولو كان بالتحالف مع
الإسلاميين والمحافظين، وجمع التناقضات والأضداد
من يسار وإسلام، أو قوميين وأكراد، أو متطرّفين ومحافظين. ويقود هذا المعسكر حزب
الشعب الجمهوري ومن التحق به أو أعلن دعمه وتأييده له، ممّن نشأ على العلمانية، أو
اكتوى في عهود سابقة بنيران الكمالية! لا فرق، طالما أنّ الربح هو الغاية وإسقاط
أردوغان "الظالم الديكتاتور" هو الهدف.
- والمعسكر الثاني هو المعسكر المحافظ الذي يعتز
بالموروث الإسلامي والقومية التركية، ويرى في الدّولة العثمانية العليّة حلماً
يراوده عبق تاريخها، وأملاً يحدوه إحياء سلطانها. ويقود هذا المعسكر الرئيس الحالي
رجب طيب أردوغان المتحالف مع قوميين وإسلاميين، دون أن يجد غضاضة في التحالف مع
الحزب اليساري الديمقراطي الذي منع رئيسه بولنت أجاويد عام 1999
السيدة مروة
قاوقجي، أول برلمانية محجبة في تاريخ
تركيا، من دخول البرلمان قائلاً: "إنّ
البرلمان ليس المكان الذي يجرؤ فيه أحد على تحدّي النّظام والدّولة". ففي
الانتخابات كلّ الوسائل مشروعة، ومن أجل الفوز كلّ التحالفات ممكنة وكلّ الأسلحة
مباحة.
أردوغان وتحديات الحكم:
لم يكن
تاريخ رجب طيب أردوغان في الحكم ولا حزب
العدالة والتنمية مفروشاً بالورود والرياحين، بل كان حفراً في صخور نظام عسكري
دموي، ودولة أمنية عميقة تتحكّم بمقاليد الأمور وتواجه من يعارضها بالحديد
والنّار، والسّجن والإقصاء، أو الشّنق والاغتيال. وقد أُجبر أردوغان، بقرار من
محكمة مدنية، على الاستقالة من رئاسة بلدية إسطنبول عام 1997 لمجرد أنّه ألقى
أبياتاً شعرية للشاعر ضياء غو قلب تشبّه المساجد بالثكنات والمآذن بالحراب والقباب
بالخوذات والمؤمنين بالجيش، ثمّ سجن للسبب نفسه عام 1999، ومُنع من تولّي رئاسة
الوزراء ودخول البرلمان رغم أن حزبه نال 35 في المئة من أصوات الناخبين عام 2002،
ومضى في مسيرته السياسية ومواجهة تحديات العسكر والقضاء والإعلام ورجال الأعمال
ومحاولات الانقلاب عليه؛ حيناً عبر المحكمة الدستورية بقرار حل الحزب، أو المنع من
الترشح، أو السجن، أو العبث بالأمن والاقتصاد، بدعم من دول لم تكن تخفي عداءها
لأردوغان ومشروعه الناهض.
استطاع الرجل بحكمته وحنكته ودهائه المحافظة على
السلطة منذ 20 سنة، ربح فيها الانتخابات وخسر، وغيّر في تحالفاته وبدّل، وظلّ على
رأس السلطة، رغم تراجع شعبيته في صناديق الاقتراع منذ عام 2014، حتى تمكن من تشكيل
تحالف مع قوميين وإسلاميين ويساريين، خاض معهم الانتخابات البرلمانية والرئاسية
الأخيرة في 14 أيار/ مايو الماضي، ليحقق أكثرية برلمانية على مستوى التحالف الذي
بناه،
رافعاً من رصيد حلفائه على حساب المقاعد التي حققها حزبه، حزب العدالة
والتنمية، مؤمناً ببراغماتيّته، أنّ الحلف القويَ هو الذي يحقّق له المضي في مشروع
بناء تركيا الذي يريد، ولا يتعزّز بناء الحلف القوي المتين إلا ببعض التضحيات،
وهذا ما حصل.
معركة الرئاسة وإعلان الهوية:
وفي معركة رئاسة الجمهورية أعدّ كلٌّ من المعسكرين
عدّته وتحضّر بكلّ أسلحته، وكان كلّ شيء مباحاً في هذه المعركة التي كانت حرباً
ضروساً حامية الوطيس، وضعت أوزارها عن خسارة مرشّح المعسكر العلماني كمال كليتشدار
أوغلو، رغم حصوله على عدد أصوات يفوق تلك التي حصل عليها حزبه في انتخابات 2018،
وتقدّم عليه رجب طيب أردوغان، رغم أنّه تراجع عن النتيجة التي حصل عليها في
رئاسيات 2018. هي حسابات الأرقام والقوانين الانتخابية وموازين الربح والخسارة،
تلك اللعبة التي يتقنها أردوغان ويمارسها بإتقان.
ولا يستطيع الناظر في مواقف المعسكرين إلا رؤية ذلك
التباين الكبير في النظرة إلى صورة تركيا في عيون كلّ فريق، هذا التّباين الذي
تجلّى في اختيار كلٍّ من رجب طيب أردوغان وكمال كليتشدار أوغلو
اختتام حملاتهما الانتخابية
قبل الجولة الأولى، حيث اختار الأول مسجد آيا صوفيا بكل ما يرمز إليه من حفظٍ
للتراث، وتمسّكٍ بالإسلام، وتحوّلٍ في التّاريخ، وبناءٍ لهوية تركيا الجديدة كدولة
محورية تستنهض التاريخ والموروث الإسلامي، وتستثمر الموارد والموقع الجيوسياسي،
وتنفتح على المحيط العربي والإسلامي، لتبني ما أطلق عليه الرئيس التركي
"تركيا القرن".
واختار الثاني أنيت كابير حيث ضريح "الغازي"
مصطفى كمال أتاتورك، باني تركيا الحديثة وصانع الجمهورية على أنقاض إرث السلطنة
العثمانية وموروثها الإسلامي، وأقصى طموحه استعادة أمجاد الكمالية الليبرالية التي
ترى في علمنة الدّولة طوطماً مقدّساً، وفي الانسلاخ عن الشرق والدّين والقيم
تحرّراً من التخلّف والرّجعية، وفي الالتحاق بأوروبا ثقافة وحضارة قمّة التّقدم
وغاية المدنية.
الإسلام الحاضر رغم المحن:
لم تتمكّن الكمالية التي استعانت، خلال عقود طويلة، بعسكرة
النّظام وقمع الجيش؛ من
سلخ تركيا عن جذورها أو فصل الدين عن حياة الناس ومشاعرهم
وخياراتهم، فقد فاز حزب عدنان مندريس الديمقراطي عام 1950 بشعاراته الإسلامية
المحافظة، بفارق كبير بلغ 403 مقاعد مقابل 63 مقعداً للجمهوريين الكماليين! ولم
يحل إعدام مندريس وإخوانه، وضراوة القمع من إيصال تورغت أوزال إلى رئاسة الوزراء
عام 1983، ثمّ نجم الدين أربكان عام 1996 وصولاً إلى حزب العدالة والتنمية برئاسة
رجب طيب أردوغان منذ 2002.
واليوم، بعد هذه السنوات الطويلة من
صراع الهوية، لا
شكّ بأنّ تركيا جديدة تُصنع: تركيا يشكّل فيها الإسلام عنصراً حاضراً في الهُوية
والوجدان، حيث لم يعد بمقدور الآلة العسكرية والأنظمة الوضعية تجاوزه أو نكراه،
كما لم يعد بمقدور حزب الشعب الجمهوري مواجهته أو إلغاؤه، فقد كان الإسلام في
الانتخابات الأخيرة هو الناخب الأكبر الذي يطلب ودّه اليسار العلماني الجمهوري
الأتاتوركي، كما فعل حزب اليسار الديمقراطي بانضمامه إلى تحالف الجمهور وترشّحه
على لوائح حزب العدالة والتنمية، أو كما فعل حزب الشعب الجمهوري بإعلان رئيسه
ومرشحه للرئاسة التركية كمال كليتشدار أوغلو أنّ الحزب "أخطأ في منع
الحجاب"، وهو الذي كان قد تقدّم
باقتراح قانون إلى البرلمان التركي يتضمّن
إضافة بند لقانون موظفي الخدمة المدنية، ينصّ على أنّ "الحجاب مسموح
به". بل بلغ التغير لديه حدّ ترشيح المحامية المحجبة "سفغي كلج" عن
المنطقة الأولى من إسطنبول، وراح
يبحث عمّا يربطه بالدين؛ فظهر كليتشدار أوغلو
وبيده ترجمة كتاب "معالم في الطريق" للشهيد سيد قطب رحمه الله، وقام
بزيارة قبر "ولي" في قضاء آقشهير بقونيا، وظهر في إفطارات رمضانية
رافعاً يديه بالدعاء، أو مستشهداً بآيات من القرآن، واعتذر عن صورة له انتشرت على
مواقع التواصل الاجتماعي يدوس فيها بحذائه على سجادة صلاة قائلاً إنّ وقفته هذه لم
تكن مقصودة، فضلاً عن تحالفه ضمن الطاولة السداسية مع أحزاب طالما ناصبها العداء،
سواء الإسلامية أو القومية، مما يشير بشكل واضح إلى أنّ هذا الحزب الغارق في
العلمانية الكمالية لم تعد له تلك الهوية الملحدة اللائكية.
ولا شكّ بأنّ نجاح ثمانية نوّاب من حزب الرفاه الجديد
والهدى الكردي الإسلاميين، ضمن تحالف الجمهور، إضافة إلى
36 برلمانياً إسلامياً:
حزب السعادة 10، وحزب المستقبل 11، وحزب الديمقراطية والتقدم 15، على لوائح حزب
الشعب الجمهوري، إنّما هو في رصيد تعزيز الهوية الإسلامية للنظام التركي الجديد
الذي يقوده رجب طيب أردوغان، رغم أنهم نجحوا على لوائح حزب الشعب الجمهوري، وضمن
تحالف الأمّة المعارض.
ولعل ذلك ما جعل مسؤولين كباراً من حزب الشعب الجمهوري
ينعون على رئيسهم كليتشدار أوغلو أنّه رهن حزبهم للإسلاميين مقابل تأييدهم له في
انتخابات الرئاسية، فـ"ربحوا نواباً على حساب حزبنا، وخسرنا أصواتهم حين لم
يتمكنوا من إقناع قواعدهم بالتصويت لنا"، كما يقول أحد مسؤولي الحزب، الأمر
الذي يؤكد تحرّر الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية من كثير من القيود التي
كانت تكبّلهم في تبني خيارات أكثر محافظة وإسلامية، فهم يملكون الأكثرية
البرلمانية إضافة على 36 صوتاً لا تملك إلا تأييدهم في المشاريع التي تخدم الهوية
الإسلامية والمحافظة على القيم، الأمر الذي يؤكّد أنّ الإسلام بات في قلب المعادلة
السياسية التركية، وأنّه لو فاز أردوغان في الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية،
كما هو مرجّح، فسيكون أكثر اتجاهاً لأسلمة القوانين، ولو فاز كليتشدار أوغلو، وذلك
أمر مستبعد، فسيكون أكثر حرصاً على تأكيد انفتاحه على الشرائح الاجتماعية المسلمة
المحافظة.