لا أدري لماذا وأنا أتابع أحداث
الانتخابات التركية لم
تفارقني مشاهد ضرب الكيان الصهيوني الأخيرة لغزة وقتل قيادات الجهاد الإسلامي
وأزواجهم وأطفالهم، وظلت استغاثاتهم تقرع أذناي وأنا أردد: ما ثَم معتصمٌ يُغيث من
استغاث به وصاح، ولا ثَمَّ مرسي يقول لن نترك غزة وحدها فقد قتلوه، وتذكرت قول
تسيبي ليفني، وزيرة خارجية الكيان الصهيوني السابقة: ما كان لنا أن نترك مرسي
يخدعنا كما خدعنا
أردوغان، قلت فهل خدعهم حقا أردوغان؟ هل يراوغ في السياسة بكياسة
ويلاعبهم بدهاء في كل الميادين حتى تقوى شوكته ويدين له التمكين؟ وأسئلة كثيرة
ثارت بخاطري وكنت أغالب النوم حتى غلبني.
فرأيت أردوغان وكأنما على كتفيه ثقل من حديد وفي يديه
سلاسل يحاول أن يتخلص منها ويمشي مسرعا، فيشده البعض من الخلف فيغالبهم فيغلبهم
ويسرع ثم يشدُّونه ليتوقف فلا يلتفت ثم يمشي ثم يسرع. وعلى الجانبين أقوام مصطفُّون،
فاتحو أفواههم، متدلية ألسنتهم، وآخرون معهم أقلام طويلة قد أفرغوا حبرها وملأوها
دماً وأسنانها تقطر به ويلوّحون بها في وجهه، فأخذت أدفعهم عنه وأمسكت بيده فقلت:
إلى أين أنت ذاهب ونحن في وقت السَحَر؟ قال إلى مسجد آيا صوفيا. قلت لماذا؟ قال
لندرك صلاة الجماعة، قلت ولماذا مسجد آيا صوفيا؟ قال أنا أعمل خادماً فيه وحارساً
له. وبينما أخذني العَجَب استطرد قائلاً: إن وافاني الأجل ولقيت ربي فإياكم ثم
إياكم أن يعيدوه متحفاً.. إياكم ألَّا يرتفع الأذان فوق مآذنه..
وصلنا المسجد ودخلناه وهؤلاء القوم خارجه وأصواتهم
تعلو، ولكنها كانت عجيبة أشبه بنباح الكلاب وتحاول أن تغطي على صوت الأذان الجميل الذي
يتردد في الآفاق ولكن دون جدوى.
انتهينا من الصلاة وجلسنا نختمها ثم بدأ يرتل الآيات
الأولى من سورة البقرة ثم الآيات الأولى من سورة الفتح والتف الناس حوله ووجوههم
متهللة من الفرح، ولما أراد الانصراف صاحوا جميعاً: لا تتركنا فقال والله لن
أترككم حتى يُظهركم الله أو أهلِك دونكم فلا تخافوا إن الله معنا ومعكم، ثم أمسك
بيدي وخرجنا مشياً نردد أذكار الصباح. ثم قلت سيدي الرئيس لقد كنت من قبل واجداً
في نفسي منك عاتباً في بعض الأمور عليك، وقبل أن أكمل قال: يا أخي الحبيب إنما أنا
بشر أخطئ وأصيب وأجتهد في ظروف صعبة ومعقدة، ولست وسط عالم منافق فحسب وإنما عالم
متربص بنا وبأمتنا. وهنا بدأت أستمع إليه بإنصات وأنا أدفع عنّا بعض الكلاب تجري
وهي تلهث؛ إن حملت عليها تلهث وإن تركتها تلهث، وعلى الجدران لافتات كأن عليها
رؤوس الشياطين وتخرج مكبرات صوت من الأزقّة والحواري فهمت أنها تدعو لانتخاب
أصحابها.
قال اسمعني جيداً نحن الآن في مفترق طرق وبين خيارين
ومشروعين..
نحن بين آيا صوفيا المسجد أو المتحف..
نحن بين حماية أولادنا وصيانة قيمنا وأخلاقنا وبين
الشذوذ وما يسمونه المثلية..
نحن بين استقلال إرادتنا واسترداد هويتنا والتخلص من
مواريث الانقلابات العسكرية، وبين الردة السياسية لعشرينات القرن الماضي والعودة
لأحضان الغرب..
نحن بين مشروع الانعتاق الاقتصادي من هيمنة صندوق
النقد الدولي وهو ما فعلته.. وبين الارتماء في أحضانه من جديد وإغراق البلد في
الديون..
نحن بين مشروع التقدم والازدهار في كل المجالات وصناعة
غذائنا ودوائنا وسلاحنا كما فعلنا، وبين العودة للخلف لنكون في مؤخرة الأمم بعد أن
أصبحنا في أعلى القمم..
نحن بين الاستمرار في تعظيم الإنتاج والتصدير، وبين
التوقف عن ذلك واستيراد كل شيء كما كان الحال من قبل.
نحن بين مشروعين؛ مشروع أخلاقي يمليه علينا ديننا
وضمائرنا فلا نُسلم من لجأ إلينا واستغاث بنا إلى مصير مجهول دون تأمين عودته
وصيانة حياته وكرامته طوعاً لا كرهاً، وبين مشروع يخاصم الأخلاق والقِيَم يجعل
إخواننا وأخواتنا مادة للمزايدة وكسب الأصوات على حساب الأرواح..
والتفتَ قائلاً: وحتى بحساب المصالح فوالله كم انتفعنا
بهم ومنهم ورأينا البركة في وجودهم.
ثم سألته: ما الذي صنعته حتى أفرَدَت صحف الغرب
صفحاتها وعناوينها للتحريض عليك والنيل منك وجرّدت جيوش كُتّابِها وقنواتها وأعلنت
الزحف المقدس كأن الجيوش الصليبية على أبواب القسطنطينية؟ هل طبّقتَ الشريعة
وأعملت الحدود وفرضت الحجاب وأعلنت نفسك خليفةً للمسلمين وأميراً للمؤمنين؟ قال لا
شيء غير أني أعطيت للناس حريتهم، والإسلام بطبيعته أسرع انتشاراً في جو الحريات
يملأ كل الفراغات ويسد كل الثغرات فأصبحت المحجبة سفيرة ووزيرة بعد أن كانت محرومة
حتى من دخول الجامعة، لم أفعل شيئاً غير محاولة استرداد هويتنا الثقافية والتصالح
مع تاريخنا وقِيَمِنَا وعدم ملاحقة الإسلام والتضييق عليه فقد كُنّا حُمَاتَهُ على
مدار ستة قرون.
لم أفعل شيئاً سوى أنّي لم أعد شعبي بشيء قط وأخلفتُ
وعدي واجتزت بهم ومعهم كل الصعاب، أفلا يرون كيف تعاملنا مع وباء كورونا ومع زلزال
يهد أقوى الدول هدّاً. وبعون من الله اجتزنا وما زلنا نجتاز الآثار بقوة وثبات
وإكرامٍ لكل متضرر.
لم أفعل شيئاً غير ما ترى من إنجازات وانحيازات..
إنجازات في شتى الميادين تبهر العدو والصديق،
وانحيازات لقضايا الحق والعدل في كل مكان..
لم أفعل شيئاً سوى أني جعلت بلدي رقماً صعباً لا يمكن
حل أي معادلة دونه..
وأحسست بسيل متدفق لا يتوقف فقاطعته سائلاً عن إخوان
طريقه داوود وباباجان وكذا الحزب المسمى بالسعادة، قال لا بأس أن يختلفوا معي فلست
نبياً معصوماً والخلاف في الرأي قد يدفع إلى الأفضل وسلوك آفاق جديدة في طريق الحق،
ولكن أن يتحالفوا مع من انقضّوا على قيمنا وديننا وهويتنا وقبابنا ومآذننا وأذاننا
وحاربوا لغة قرآننا وضيّقوا على مساجدنا وحاربوا حجاب بناتنا؛ فكيف ساغ لهم ذلك؟
هل يتحالفون مع من لا مانع عنده ولا اعتراض لديه على ما
يسمونها بالمثلية؟ وماذا هم فاعلون له إذا أراد أن يسن لذلك قانوناً؟
هل يتحالفون مع من يعلن في برنامجه إعادة مسجد آيا
صوفيا متحفاً وهو الذي ظل خمسة قرون يُرفع فيه الأذان وتقام فيه الصلاة؟
هل يتحالفون مع من يريد ارتهان إرادتنا للغرب وإعادتنا
سيرتنا الأولى إلى حظيرته وهدم ما بنيناه؟
هل وهل.. واغرورقت عيناه بالدموع، وساعتها سمعت صوتاً
من بعيد يرتل قول الله تعالى: "إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي
في الصدور"، فصمتَ قليلاً ثم قال: ولكني حزين عليهم، فكم كان بيني وبينهم من
الود ما يكفي الآن للحزن عليهم والشفقة على حالهم.
واستيقظت وكانت الشمس قد بزغت وانزاح الليل وطلع
النهار على صوت فرز أصوات الانتخابات وأُعلنت نتيجة الإعادة، فقلت الحمد لله حمداً
كثيراً وقلت لزوجتي إذ رأيتها مهمومة: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ
لكم"، وهذه نتيجة كلها خير فلقد تم تأمين البرلمان بنسبة مريحة أربكت كل
حساباتهم بل قضت عليها، فلا عودة للنظام البرلماني كما خططوا ولا توزيع للمناصب
بينهم كما أرادوا، وقد صمتوا ولم يُحدثوا الشغب الذي أرادوه إذا فاز الرئيس
بالرئاسة والبرلمان فقد بقيت أمامهم انتخابات الرئاسة، والرئيس متقدم بمليونين ونصف
المليون من الأصوات ولا يحتاج إلا إلى واحد في المئة فوق ما حصل عليه في الدور
الأول، وسيحرز أكثر منها لأسباب ظللت أعددها لها. وما أجمل أن يأتي النصر بعد
المعاناة، وأنا شخصياً أحب أن يكون حزب الرئيس تحت الضغط الدائم لإصلاح الأخطاء
وتحسين الأداء.
قالت: ألم يكفهم أن الرئيس كان واقفاً في الطابور للإدلاء بصوته
وسهر حتى الفجر يراقب النتيجة صعوداً وهبوطاً مثلنا؟ قلت لها إنهم رغم هذا يقولون
عنه ديكتاتوراً.. قالت اللهم يا رب ارزقنا وسائر بلاد المسلمين دكتاتوراً مثله. قلت:
آمين.