لربما أبت هذه الأرض إلا أن تحكمها الإمبراطوريات، فمنذ ما يقارب ثمانية
آلاف و500 عام، عاش الإنسان على الأراضي التركية بحدودها الآنية، وتطورت مدنها لا سيما
إسطنبول تحت سيادة العديد من الدول عبر التاريخ، وكانت مركزاً لمختلف الثقافات،
لكن ما جمع هذه الدول هي قوتها ونفوذها الممتد في جوارها الذي قد يصل إلى أطراف
العالم.
فإسطنبول، مثلاً شغلت عاصمة ثلاث إمبراطوريات عالمية، الرومانية ثم البيزنطية
لترثهما العثمانية وتكمل المسيرة الحضارية على هذه الأرض لأقوى تجمع بشري في
الزمان والمكان، بعد أن امتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم
الثلاث، أوروبا وآسيا وأفريقيا، حيث خضعت لها كامل آسيا الصغرى، وأجزاء كبيرة من
جنوب شرق أوروبا، وغرب آسيا، وشمال أفريقيا، كما كان للإمبراطورية العثمانية سيادة
اسمية على عدد من الدول والإمارات المجاورة في أوروبا، التي أضحى بعضها يُشكل جزءاً
فعلياً من الدولة مع مرور الزمن.
هذه الإمبراطوريات ما كانت لتستمر إلا بجيش قوي يحمي أملاكها ويثبت نفوذها
على الأراضي الشاسعة التي باتت تسيطر عليها، وحديثاً باتت للجيوش مهام أوسع من
حماية الحدود التي فرضتها اتفاقيات، قد لا تتوافق مع الرضا العام للشعوب، فمهام
الجيوش اليوم تتلخص في حماية الدولة من الاعتداء الخارجي والمحافظة على الحدود
البرية والمياه الإقليمية والمجال الجوي للدولة، وهو ما يتطلب تجهيزات كبيرة وعتادا
متوافقا مع هذه المهام، وتتزايد هذه الأهمية مع زيادة أهمية تلك الدولة سواء بجغرافيتها
أو سياستها، وفي دولة مثل
تركيا تعيش وسط حلقة من النار، فعليها أن تعد ما تستطيع
من قوة لرد هذه المخاطر عن حدودها.
استطاع حزب العدالة والتنمية منذ أن وصل لسدة الحكم في 2002 أن يقدم رؤيته
شعبياً لتشكل قناعات جماهيرية تتسع مع الوقت، مدفوعاً بالنجاحات السياسية
والاقتصادية والخدمية، حتى أحدث تغييراً جارفاً في الجمهورية الثانية، رافعاً شعار
العثمانية الجديدة، ومستنبتا بذور أمجاد الأجداد في صدور الأحفاد، حالمين بعودة
تركيا الكبيرة التي غابت عن العالم في غفلة من القائمين على الأمر، ومكائد حيكت
وتنامت ووصلت لأهدافها في ظل هذه الغفلة، ولما أفاق القابضون على الأمر فلت من
أيديهم الزمام.
حققت
الصناعات الدفاعية التركية طفرة غير مسبوقة منذ تولي حزب العدالة
التنمية الحكم في 2002، ولا شك أن البنية التحتية والاتفاقات الدولية، متمثلة في
عضوية أنقرة في حلف الناتو، سهلت لها الإفلات من قبضة الغرب الراغب في إبقاء تركيا
ضعيفة، ومستغلة في بناء المصانع ومستفيدة من الأيدي العاملة الرخيصة، إلا أن الذئب
التركي استطاع، كما عادته، الاستفادة من أنصاف الفرص ليحرز الأهداف، حتى باتت
الأعوام الأخيرة عنواناً للصناعات الدفاعية التركية، ووصلت نسبة ما يوفره هذا
القطاع للقوات التركية إلى ما يقارب 80 في المئة من احتياجات الجيش وقوات الأمن التركية.
فمن صنع الطائرات المسلحة المسيرة، إلى المنصات البحرية، والمركبات البرية،
والصواريخ، والمركبات البرية والبحرية المسيرة، وأنظمة الحرب الإلكترونية وصولاً
لحاملة طائرات مسيرة، باتت تركيا إحدى الدول التي تزاحم الكبار في هذا المجال.
لكن هذه الصناعات وإن كانت لها مهام وأهداف إلا أنها تحمل مع ذلك رسائل،
فالأسماء التي حملتها كل قطعة سلاح أو معدة عسكرية صنعت في تركيا تحمل رمزا ورسالة
بخلفية عثمانية تسعى لإعادة إنتاج ما حققه الأجداد. فالطائرة الهجومية "كآن"
وهي تلك المقاتلة الهجومية النفاثة والتي سماها
أردوغان بنفسه تعني في العثمانية "الحاكم
القوي"، ما يعني أنها ستتحكم في الجو كما تحكم أجداد من صنعوها على الأرض.
كذلك اسم أكنجي للطائرة المطورة للمسيرة بيرقدار، إنما هي لاسم أقوى فرقة
في الجيش العثماني، فيما يطلق الآن على فرق الصاعقة، فلقد كانت فرقة أكنجيلار، هي
الموكل لها المهام القتالية واستنزاف العدو، ويذكر أن تلك الفرق لم تُهزم في معركة
ولم تفشل في عملية، أما الطائرة "كيزيل إلما" فلها مدلولها في العقل
الجمعي التركي إذ ترمز إلى العدالة الربانية إلى كل العالم، هذه العدالة التي
تحتاج إلى قوة تحميها، وهي الفكرة التي رسخت في عقول الجنود
العثمانيين، ويلقّنها
لهم قادتهم خلال توجههم إلى المعارك والفتوحات.
وعندما يتحدث أردوغان عن الوطن الأزرق، فإنه يتحدث أيضاً عمن سيحميه، لذا
تقف الغواصتان "خضر رئيس" و"سلمان رئيس" لحماية هذه الحدود،
بل تقفان حاملتين معاني ورسائل باسميهما، اللذين يذكران أعداء تركيا والأمة
الإسلامية بأمجاد الرجلين وما فعلاه ببحرية الأعداء في زمانيهما.
وعلى الأرض ترابط الدبابة ألطاي، باسمها الدال على ترابط العرق التركي حتى
ولو تباعدت المسافات وقطعت الحدود وصلهم، فإنهم مربوطون برباط الدم والعقيدة، في
رسالة مفادها أن تركيا لها ظهير من الشعوب التركية قادم وسيتحد، فقط ينتظر الوقت.
هذا العمل الجاد والنجاحات غير المسبوقة وتلك الأسماء التي اختيرت لها،
إنما يعكس ما يحلم به أردوغان لوطنه وأمته، فالرجل يحلم بزراعة طعامه وصناعة دوائه
وإنتاج سلاحه، حتى يستغني ويعتق بلاده وربما الأمة من سيطرة الأمم المتعالية التي
ترى في نفسها عرقا أفضل وجنسا أرقى، ولعل ترديد الرجل شعار دولة الموحدين "لا
غالب إلا الله" هي رسالة لكل تركي ومسلم أن استعن بالله ولا تعجز فإن ما كان
في يوم من الأيام مستحيلاً أصبح حقيقة.