عندما ولدت "
إسرائيل" عام 1948 تعامل الغرب الاستعماري في جميع مقارباته معها، كحقيقة سياسية أراد من الجميع، خاصة من
العرب ومن
الفلسطينيين، اعتبارها حقيقة سياسية مطلقة!
كان أهم شخص حفظ هذا الدرس عن الغرب ومبعوثيه ودبلوماسيته هو الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر؛ الذي طالما نُظر إليه في فترة حكمه كَـ"أبٍ للعرب" تتسع عباءته لهم جميعًا، وبالتالي فقد كان لموقفه دوائر تأثير لدى العرب والفلسطينيين؛ خاصّة أنهم تعلّقوا به بعد حرب 1956 ونظروا إليه بوصفه أملهم المُرتجى في استعادة فلسطين، وتعزّز هذا الشعور بعد إنجاز الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية عام 1958، لكن بعد فشل تلك الوحدة عام 1961؛ أخذت سهام النقد تتوجه إليه باللّوم، خاصّة بعد ذهابه بعيدًا في التورّط في حرب اليمن، فضلًا عن تغطيته للثورة الجزائرية البعيدة، في حين أنه وقف صامتًا إزاء "إسرائيل" التي تجثم على حدوده وامتداده الشرقي، والتي سبق لها أن احتلّت أرضه (سيناء سنة 1956)، ويتصاعد تهديدها وخطرها في كل يوم.
وحين اشتدّ النقد الموجّه إليه، خاصّة من قبل الخصوم السوريين والعراقيين، قام باستدعاء وجهاء قطاع غزة الفلسطينيين وأبلغهم بالموقف الذي وثّقته مصادر عديدة، ومنها مصادر محمد حسنين هيكل، كاتب خطاباته ومستودع أسراره، وذلك بقوله: "يكذب عليكم أي رئيس عربي، بما فيهم أنا، إذا قال لكم أن لديه خطة لتحرير فلسطين".
وسُجّل مثل هذا الموقف لعبد الناصر كأحد أهم العوامل التي دفعت الفلسطينيين إلى أخذ زمام المبادرة بأيديهم والذهاب باتجاه "الكيانية" والهوية الفلسطينية، والتي شجّعها عبد الناصر نفسه عندما أوصى ودفع باتجاه تأسيس منظمة التحرير ليحمل الفلسطينيون عبء القضية عوضًا عنه وعن العرب الآخرين.
ويشرح لنا جورج حبش، زعيم حركة القوميين العرب (قبل أن يصبح الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) المصنّفة كأهم "حليف ناصري" في المشرق العربي قبل عام 1967.. يشرح وجهة نظر عبد الناصر في هذه الإسرائيل المحيّرة، وذلك كما ورد في مذكرات جورج حبش التي أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية.
يقول حبش: "في أول لقاء مع الرئيس عبد الناصر عام 1964، وحين عُرضت عليه إعدادنا لثورة فلسطينية شبيهة، على سبيل المثال بالثورة الجزائرية، وذكرت له أن لدينا تنظيمًا في الساحة الفلسطينية، ونقوم باستطلاعات في منطقة الجليل، فلماذا لا يُعدّ هذا العمل هو الحلقة المركزية لنا ولكم في ساحة المشرق العربي؟ فكان جواب عبد الناصر: إن موضوع إسرائيل أكبر مما يُفكّر به الجميع، وعلينا جميعًا ان نتسلح بالرؤية العميقة لهذا الخطر الذي يُهدد الأمة العربية بأسرها. وإنه (عبد الناصر) يُدرك حساسية وثِقَل الموضوع الفلسطيني على الجماهير العربية كلّها، ولكن موضوع إسرائيل موضوع معقّد على نحو معقّد أكثر مما يظن الكثيرون".
ويكثّف لنا حبش طريقة فهم عبد الناصر للمسألة أو ربما كيف أفهمها بقوله: "وهو حين ذكر في كلام سابق علنيّ أن ليس لديه مخطط محدّد في هذه المرحلة للتصدّي لإسرائيل معناه التصدّي للولايات المتحدة الأمريكية، ودور إسرائيل في المنطقة العربية بالنسبة إلى الإمبريالية دور مركزي وأساسي، وهذا الموضوع يختلف كلّيًا عن موضوع اليمن او الجزائر".
والخطير فيما يُورده حبش هو في عبارته الأخيرة عن موقف عبد الناصر وهو يبرّر تجبنه الاقتراب الإسرائيلي، إذ يقول حبش: "وهو (عبد الناصر) قد نظر إلى إسرائيل في ضوء هذه القناعة والرؤية". والحقيقة أن هذه القناعة والرؤية بالتحديد التي ورثها عنه خليفته محمد أنور السادات الذي كان يعتقد أن 99% من أوراق الحلّ بيد أمريكا، وأنه لا طاقة لنا نحن العرب بمقاتلة أمريكا ولا إسرائيل. وفي اعتقادنا لو امتدّ العمر بجمال عبد الناصر – الذي كان قد تذوق الهزيمة – لأتى بفعل غير بعيد عمّا حدث في كامب ديفيد، خاصة وأنه كان قد وافق على قرار مجلس الأمن (242) عام 1967، كما وافق على مبادرة روجرز (وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية) في صيف 1970.
وعلى هديّ هذه الرؤية وهذه القناعة كان عبد الناصر قد نصح ياسر عرفات ورفاقه من قيادات فتح أثناء لقاءاته الأولى بهم بعد حرب 1967 بالقول: "لماذا لا تقبلون بالضفة الغربية وقطاع غزة، أليس ذلك أجدى لكم من العيش في الشتات".
وكانت هي نفس الرؤية أيضًا التي صدرت عن عبد الناصر عندما نصح الملك حسين بأن يفعل كل ما يمكن فعله من أجل استرداد القدس والضفة الغربية، وكانت هذه هي الحجة التي أشهرها الملك حسين في وجه طاقم بلاطه الملكي المندهش من علاقاته السرّيّة بالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي كان كشف عنها موشيه ديّان في مذكراته في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وفق ما أخبرنا بذلك أحد أهم وزراء البلاط الملك: عدنان أبو عودة، في يوميّاته!
كما أفادنا محمد حسنين هيكل أيضًا فيما أورده في العديد من كتبه وفي مداخلاته ومحاضراته على قناة الجزيرة الفضائية بأنه كانت للأمريكان مطالب ثابتة باستمرار منذ الخمسينيات فيما يتعلق بدور مصر في الشرق الأوسط، وفي صيغة علاقتها مع إسرائيل وهذه المطالب هي؛ توقيع معاهدة سلام بين البلدين، وتطبيع العلاقات بصورة كاملة، وقيام مصر بإقناع المحيط العربي بعقد سلام مع إسرائيل.
وهذا بالتحديد ما تمّ إنجازه في فترة حكم السادات ومبارك. وبالإمكان تقييم جهوده وحسني مبارك وأركان إدارته وحكمه، خاصّة وزيره الأثير عمر سليمان طيلة فترة حكمه كدور مكرّس للإقناع والترغيب في إقامة علاقات بين الفلسطينيين خصوصًا وإسرائيل، وهنا يرد حديث كثير في المصادر المختلفة حول قنوات اتصال مصرية سرّية وعلنية.
ولقد أثمرت الجهود المصرية وسجّلت إنجازات الجبهة الفلسطينية وثّقتها كتب مذكرات القيادات الفلسطينية فضلًا عن استقصاءات وإحاطات الدّارسين والمراقبين ومنهم محمد حسنين هيكل، ويكفي أن نذكر هنا كيفية تغيير القناعات لدى أحد أهم مناضلي وقيادات حركة فتح التاريخية صلاح خلف (أبو إياد)، الذي كان بعث بشريط فيديو مسجّل في شباط/ فبراير 1989 لنشطاء سلام عرب ويهود وأجانب، قامت جريدة القدس المقدسية بتوثيقه قال فيه بالحرف الواحد: "لقد كنّا مخطئين عندما اعتقدنا أن فلسطين لنا وحدنا.." وهذا الكلام كان قبل عقد اتفاق أوسلو بسنوات. وقد رعى المصريون طيلة الوقت عملية التعقيل والترشيد والترويض ومنح الغطاء السياسي اللازم لكل التنازلات المعقولة وغير المعقولة.
وعندما بقي هناك نبض رافض لوجود هذه الإسرائيل في الشعب الفلسطيني سنجد مخابرات النظام المصري تتجنّد لاستئناف نفس الدور الذي يساعدها فيه آخرون طبعًا، من عرب آخرين، ومن "أوروبيين متحضّرين" وغيرهم في عملية الترويض والتجليس والتخدير والترغيب والترهيب والكلام عن "إسرائيل" بلغة استحالة النيل منها، وأن وجودها محميّ ومُصان من الدول العظمى وأن مقاومة ذلك هو نوع من الجنون واللاعقلانية واللاواقعية وكل هذا القاموس. وفي هذا السياق ينقل عن محمود عباس قوله: "بأن إسرائيل وُجدت لتبقى"، وأننا "كعرب وفلسطينيين أقل شانًا من مقاتلتها".
والغريب أننا نقرأ كلامًا لجورج حبش نفسه الذي طالما وصف موقفه الرفضوي للتسوية هو وجبهته بالموقف الطهريّ.. حيث نجده يُجري نوعًا من القراءة النقدية للموقف الوطني الجذري من الوجود الصهيوني الاستعماري الإحلالي إذ يقول في نفس مذكراته بعد شرحه لموقف جمال عبد الناصر:
"... حين أفكر بالموضوع الفلسطيني أشعر أن من حق الفلسطينيين استعادة الأرض الفلسطينية حتى آخر شبر فيها لأنهم أصحاب الأرض. وفي الوقت نفسه لا يستطيع أي إنسان عاقل أن يتجاهل حقيقة وجود خمسة ملايين لليهودي يعتبرون أنفسهم في دولة اسمها "إسرائيل" وأن الدولة هي من حقّهم. فهل نستطيع أن نفكّر في حلّ يَكفل حقّنا التاريخي على أرضنا؟ هناك معضلة كبيرة تواجهنا من هذا النوع، فهذه دولة قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني وبعد تفكير طويل وصلت إلى قناعة عميقة بأن الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية هي الحل الوحيد".
لقد جاء في ردّ الشيخ محمد حسين فضل الله على مثل هذه الحجة قوله إنه حتى لو تحوّل جميع مجتمع المهاجرين والمستوطنين إلى الإسلام فهذا لا يبيح لهم الاستمتاع بما سرقوه، فلا يحق للمسلم أن يسرق ويتعدّى على حقوق أخيه المسلم، فما البال والحال أننا أمام هجمة استعمارية إحلالية عنصريّة مثقّلة وشرّيرة وارتكبت في طريقها جميع الموبقات واستباحت كل الحُرمات وقوّضت مسار شعب وعرقلت نهوض أمة.
ولقد جاء في التعليل لحرمة عقد الصلح مع "إسرائيل" الفتاوى التي أصدرتها المراجع الإسلامية العريقة (الأزهر، القيروان، النجف..) فضلًا عن أعداد كثيرة من العلماء والمجتهدين بأن علّة التحريم تكمن في: "إقرار الغاصب على ما اغتصب" لأن تجاوز هذا المبدأ يجعل قانون الغاب هو الحاكم.
ولا بأس أن نستذكر هنا مقولة الشيخ ذاته عندما وقع اتفاق أوسلو الذي أريد له أن يقبل حتى أحلامنا وتطلّعاتنا وأفقنا. يومها قال: "لتمت كل أحلامنا إن مات حلمنا بتحرير فلسطين". يبدو أن جيل الثوريين الفلسطيني الذي قاد ما يُسمّيه الفلسطينيون (ثورة 1965) لم يكن يتمتع "بدعسة ناقصة"، فقط، بل هو حسب أحد كبار شعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين: "بأن الصف الأول لم يثبت"!
ولذلك وعندما جاءت أوسلو دخلت المنطقة طقوس "الهرولة" التي كان من ثمارها تصريح علني لوزير خارجية قطري سابق: "علينا أن نتوسل الولايات المتحدة الأمريكية". كانت هذه الوضعية الاستسلامية تعكس الشعور بالضعف والتلاشي أمام ما يرونه جبروتًا أمريكيا وإسرائيليًا.
وعندما كان الشعب والأمّة بعد أوسلو غارقيْن تحت مياه الطوفان، والحليم فيها حيران، ولا يجد على الأفق دليلا، كان اللايقين والاهتزاز هو المتفشي، كنا يومها من بين كل الناس متأكدين من شيء واحد هو أننا نضرب في هذا الشرّ الصهيوني الجاثم على الأرض المقدّسة. كان فعلنا هذا ولا يزال هو أحد العوامل التي عصمت هذه القضية من التصفية. كنّا يومها نقول ولو زيّنوه بكل الزخارف الزائفة والكاذبة والزائغة.
إن استمرارية النضال الفلسطيني الضارب كانت له باستمرار وظيفة تعرية هذا الوجود الباطل والزائف. في كل عملية ينفّذها صاحب حق فلسطيني إنما يقوم في الحقيقة، بتعرية هذا الوجود ونزع شرعيته المُدّعاة والبرهنة على أنه وجود عابر ليس له جذور، وأن كل التهويل الذي مارسته قوى الاستكبار والاستعمار وذيولها من رجال الحكم والمخابرات في العالم العربي إنما هو هشيم تذروه رياح وأفعال المجاهدين الذين قويت وتقوى شوكتهم يومًا بعد يوم، وأن جهادهم الميمون يستحقّ مستوى مكافئًا من الطرح السياسي المقاوم الذي ليس أقلّه المناداة في العالم وفي كل المحافل وتبنّي المقولة المقاومة بأن "إسرائيل ليست حقيقة سياسية مطلقة"، وأنها كأي ظاهرة استعمارية طارئة قابلة للنقض والاستئناف التي تبرهنها أفعال المجاهدين التي ينبغي أن تصدّقها ألسنة وحجج السياسيين والدبلوماسيين والقانونيين والتي يجب إسماعها لكل من يعنيه أمر قضيتنا في هذا العالم، بأن هذه الإسرائيل ليست حقيقة سياسية مطلقة فقط، بل هي أصلًا، على خطورتها وعظم كيدها ومكرها، من النوع الزائف سريع العطب، بل التبخّر والمحو أيضًا!