لا
صاحب الأرض يبقى معجوناً بسمرتها وأصالتها، ولا صاحب القضية والمبدأ يبقى ثابتاً
على مبدئه!
تعلّمنا
نواميس الكون وأحداث التّاريخ أنّ الشَّر الدّخيل على الأرض غالباً ما يندحر، لكن آثار
الشّرّ الذي ينبت منها باقية وممتدة! أمَّا
صاحب الحق والأرض والقضية؛ فإنّه إن لم يُوارِب فلا وصولَ ولا بقاء له!
في
مسلسل "الزند"، وهو أحد
المسلسلات التي عرضت في رمضان، والذي -من وجهة
نظري- نجا السرد الحكائي وتتابع الأحداث فيه من المطمطة؛ تنتهي الحلقة الأخيرة
بكمٍّ هائلٍ من مشاعر الحزن والكَدر والخسارات المعنويّة على الرّغم من أن بطل
الحكاية بقي سالماً وحظي بكثيرٍ ممّا أراد..
"رفاق
الدرب" كان عنوان الحلقة الأخيرة منه، ووجع القلب كان التعبير الأدق!
رصدَ
المسلسلُ المشاعرَ النفسيّة التي تدفع بالإنسان الخَيِّرِ صاحب المبدأ والهدف
النبيل إلى
الشر دفعاً يبدو مسوغاً، وتقوده إلى تغيير وجهته المبدئيّة، وتدفعه نحو
وجهة مصلحيّة بحتة بطريقة فيها كثير من التَّسويغ الذي يلبس ثوب المنطق
والواقعيّة.
ثلاثة رفاق جمعتهم قضية واحدة، وظلمٌ مشترك، وقهرٌ
واحد؛ اغتالت الغيرة والخيانة بين الرجال ما جمعهم من أخوّة درب!
ملفتةٌ
غيرةُ الرجال؛ صادمة، دمارها حقيقي، ووَقعها على الرّوح أثقل من غيرة النّساء؛ هذا
ما تقوله لنا حكاية عاصي الزّند.
اغتِيلَ
الرِّفاق!
"صالح"
صاحب الأرض والمَكانة الذي التهمته نيرانُ الغيرة حين سُلِبت منه المَكانةُ
والوجاهة ومضافة أبيه؛ فاستسلم للخيانة وغدر بصاحبه! ثمن الخيانة كان الدّماء،
ووجهها الدّميم هو الاتّجار بطفلين بريئين لا ذنب لهما إلا أن يكون الخصم خالهما الذي
يرعاهما!
"خليل"
صاحب المبدأ الذي ثبت حتى النّهاية من أجل القضية، لم يُغرِه المال، كان يرى في
بداية الدرب -مثلَهم- أن الغاية تبرّر الوسيلة حتى استفزّته مواربةُ الصَّحْبِ
وانحرافهم عن الهدف المنشود، فاغتالهم حين اختار الاعتراف، فأحرق نفسه قبلهم، فاغتالوه
لينجوا!
"روس"
الشّرُّ الدّخيل على الأرض، رمز المطامع الأوروبية في بلاد الشام، طُرِدَ مقتولاً
مُقتَلعاً من الأرض التي كانت ستلفظه يوماً ما، وترميه بعيداً كما لفظت غيره على
مدى التاريخ وسيرورة البشرية.
"محمود"
شرٌّ دخيلٌ على الأرض لكنه مألوف! شرٌّ مذموم لكنّهم متعايشون معه، شرٌّ بغيضٌ
متدثّرٌ باسم الدّين والأُمّة الواحدة، لكن ما له من الدّين وحكايات الأُمّة الواحدة
إلا القشور، على الأقل في بقعة الأرض التي صورها المسلسل حول نهر العاصي وما يضمه
من قُرى وحقول.
"نورس"
الشّرُّ النابِع من الأرضِ نفسها، الشرُّ الذي أنتجه أجدادُ الخَونة ورؤوس
الإقطاعيين والمُطبِّعون مع المحتلّين؛ هذا الشّرُّ الذي لا يموت ولا يندحر
بالمطلق؛ اختفى وبقيت آثاره، اختفى ليعود بشكلٍ جديد ووجه جميل تألفه الأرض التي
أنبتته فيغدر بها مجدداً، ويتركها لِلَّعَناتِ التي تخرج منها لتعود إليها سهاماً
من غدر وخيانة وأحقاد وشَرَهٍ مصلحيّ ونفعيّ!
"عاصي"
صاحب الأرض والمبدأ والقضية، صَوَّره لنا المسلسل على أنه لم يجد مَفرّاً من
المواربة للنجاة بالأراضي والعباد، اضطرّ للمُسايرة ليكسب أهدافه القريبة متناسياً
أهداف الرفاق البعيدة! حَظِي بالمكانة بدون تخطيط لها، شجاعته وإقدامه وقدرته على
القيادة جعلاه في الصّدارة، التفّ الرّفاق حوله وكانوا رفاق درب قديم، ورفاق مواقف
حقيقية وواهِبي حياة.. لكنّه اغتالهم حين انفكّت عُرى الثقة فيما بينهم، لم يبدُ
فعلُه شديد البشاعة للمشاهدين، فأصحابُ الخطوة الأولى نحو الغَدرِ هم الرفاق الذين
حَلُّوا ما بينهم من عهد وثيق وخانوه، سواء أكانت دوافعهم ذاتية أم موضوعية، لا
مسوّغ للخيانة، ولا حلَّ لها إلا الاغتيال.
اغتيلت
الصداقةُ حين فارت ثورة الانتصار للنفس التي التفّت بدثار ثورة الانتصار للمبدأ، انمحى
الماضي بما فيه من مواقف وأصالة جمعتهم، لم يبقَ إلا صاحب الحقِّ الموارِب الذي
اغتال صاحب الأرض حين خان، واغتال صاحب المبدأ حين صدح ليذكّر الرفاق بالمُبتغى.
نَعِمَ
عاصي بالسلطة والمال والوَجاهةِ حين تحالف مع ما يظنّه أهون الشّرَّينِ
الخارجيَّين، لكنه نَعِمَ بذلك على جُثثٍ الرّفاق الذين تخلّص منهم ليبقى مقنعاً
نفسه أنّه فعل ذلك حفاظاً على المبدأ، فحين يستبدّ المرء يصبح هو المبدأ وهو
الغاية في نظر نفسه!
أما
الشر الذي ينبت من الأرض كزرع أخرج شطأه فامّحى كسرابٍ لم يبق منه إلا آثاره، لا
شاهد على مصيره ولا جثة هامدة تشفي صدور المنتَظِرين، فالشر باقٍ بطبيعة الحياة
وناموس الكون!