هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هل ثمّة دِفْءٌ أكبر وأنعم من ذاك الذي يشعر المرء به بين أبويه وإخوانه وأخواته! هل ثمّة طمأنينةٌ وأمان وانتماء وإحساس بالسَّنَد والقوّة والدّعم والاكتفاء كذاك الذي ينعم به المرء حين يكون بينهم وبقربهم وجوارهم؟!
الأُسرَةُ العُنقود
من الشَّائع في بلاد الشَّام أن يُقال عن آخر فرد من أفراد العائلة قدوماً إلى الحياة: (آخر العنقود)! تبدو هذه التَّسمية دَمِثةً دافئة مستمدة من خيرات البلاد ومعالم بيئاتها الجميلة التي تنضح بشتّى أنواع الطيّبات والخيرات والجمال والمسرّات.. فمَن مِنّا لم يَحْظَ بِعَرِيشَةِ عِنبٍ يستظِلُّ بِفَيئِها ويستلذّ بحبّاتِها في بيته أو في بيوتِ جدوده وأقربائه وذَوِيه؟
في قولنا (آخر العنقود) رسمٌ بديعٌ لِصورةِ الأُسرة التي يَرتَصِفُ فيها الأبناءُ كَحَبّات عِنَبٍ مَنضودٍ تبعث في النَّفس لذَّةَ الدَّهشةِ بِجَمالِ الخَلْقِ وقُدرةِ الخالِقِ، إذ ترتبط الحَبّاتُ كلُّها بِعِرقٍ واحد يجمعها، كالأَبَوَين اللَّذَين يجمعان ويربطان ويرتِّبان هذه الحبَّات عنقودًا.. ومن دونهما تتناثر حَبَّات العنب متباعدة لا عِماد لها تَتَّكِئُ عليه وتَنعم بِقُربِه.
(آخر العنقود) هو الحَبُّة التي تتفرّدُ في نهاية العنقود المُتَدلِّي فلا تُجاورها حَبّةٌ أُخرى، فتُكسِبُ العنقودَ تناسقًا بفرادتها واستقرارها وحدها في نهايته، وفي الأُسرة آخر العنقود هو آخر الأبناء وهو الذي يُضفِي على بُنيان الأُسرة جمالًا خاصًّا ويبعث في أوصالها مَرحًا عابثًا، ويتفرّد في أُسرته بذلك لا يشركه في هذه المزيّة أحد!
إنّ تشبيه الأسرة بالعنقود تشبيه بهيٌّ يعبر عن كينونة الأسرة واستقلالها من جهة وامتداداتها المجتمعية من جهة ثانية، ألا ترون كيف يتدلّى العنقود من عريشة عظيمة ممتدة تحميه وتأويه وتظلّه وتضمّه إلى حناياها متدلّيًا متبخترًا مزهوًّا كحال من يتقدّم وقد أمِنَ ظهرَهُ وأَرخى للحياة عَمائمَه واستقبل الشمس بِسَدائِله المعمولة من روح أبوين اكتشفا لذّةً من أشهى ملذّات الحياة الدنيا حين قرّت عيناهما بالبنين والبُنيّات.. ألم يقل الله تعالى في مُحكَمِ التَّنزيل: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
وقد يبدو التّعبير بـ (آخر العنقود) تسميةً مُنحازة، فهو آخره وأوّله وجانبه المكشوف وطرفه الأضعف والأقربُ للقطف والسّقوط والتّناول! لِذا يشعر دومًا بحاجته الماسّةِ لِشَدِّ عَضُدِه بإخواته وتمسُّكِهِ بأبَوَيه وحُبِّهِما وحَنانهما..
مزايا آخر العُنقود
لِآخرِ العُنقود كثير من المزايا وكثير من الحقوق التي قد لا تنالها حبات العنقود الأُخرى مهما قلّت أو كثرت!
آخر العنقود ذنبه ـ غالبًا ـ مغفورٌ أو مُسَوَّغٌ من الأبوين أو من الإخوة الأكبر سِنّاً في كثير من الأحيان، حتّى إنّه يُذنِبُ فيُعاقَب الإخوة عن رضى نفسٍ حُبًّا به وفداءً له!
آخر العنقود صَخَبُ البيت وضَجَّتُهُ وضِحكتُه وروحُه وجَناحُهُ الطَّليق المُشرَئِبُّ لكلِّ جديد... وكل قديمٍ غاب عنه!
آخر العنقود هو علبة الألوان التي تُبهِجُ زوايا المكانِ وتوسِّع ما ضاق منه إذا ما اعتلته الأحزان والأكدار!
آخر العنقود حصيلةُ عاطفة الأم والأب التي خُبِّئَت لِمَنْ لم يأتِ بعده من الأولاد! وهو الموئل الذي يتلقّى موارد الحنانِ الذي حُرِم منه إخوته بهدف التّربية في حين، وعن قلّة معرفة وتجربة بقضايا الأولاد وطبائعهم في أحيان أُخرى.
كثيرٌ من العطاء والدّلال الزائد لآخر العنقود أو غيره من الأبناء؛ العطاء الذي لا يكون في مكانه الصحيح يُنشِئ جيلًا عابثًا لم يعرف في حياته قيمة الانضباط، فقد نشأ في أُسرةٍ سمحت له بتجاوز القوانين كلّها، ولم يذق طعم الرفض بـ (لا) ولا كيفية التعامل معها..
آخر العنقود هو السرُّ الحيُّ الذي دُفِنَ في قلب كلِّ امرئ من عاطفة نحو إخوانه وأخواته، هو الحبُّ الأخويُّ المركَّز الذي تترجمه النّفسُ بأُبوّةٍ مبتدِئَةٍ تتدرجُ بخطواتٍ ثابتة وأُمُومة حَيِيَّة عظيمة العطاء!
آخر العنقود هو العُكّاز الذي يُخبِّئه الأبوين لِيَأنَسا به في طريقهما حين يطول دربُ الحياة بهما..
آخر العنقود هو البُلبُلُ الذي يُتقنُ جميعَ الأنغام التي تُطربُ أفراد الأُسرةِ كلِّهم على اختلاف أهوائهم وشخصياتهم... صديق إخوتِه ورفيقُ أبويه وصفحة عِزِّهم ودلالِهم..
آخر العنقود معنى جميلٌ تُهديه السّماءُ كغيثٍ تندى بقطراته أزهارُ العائلة وتحيا..
آخر العنقود لا يكبرون! ولا يعرفون كيف يكبرون! فمهما امتدّت بهم الأيام لا يستطيع الآباء ولا الأمهات ولا الإخوة الأكبر سِنًّا ولا آخر العنقود (أنفسهم) أن يقتنعوا بأنهم صاروا كبارًا! سيبقون دومًا آخر العنقود ولَذّته وحَلَاه! وجانبه الأضعف حين يتعلق الأمر بأبويهم أو إخوانهم!
لكن!
كم من بيوتٍ وعائلات اختلطت ألوانُها وتطايرت معاني الجمال فيها، وتعثّرت خطوات الإخوة في أرجائها وافترقت بسبب ما عاشوه أو يعيشونه من تفضيل وتمييز فيما بينهم، قد يكون لآخر العنقود يدٌ في ذلك وقد لا يكون.. لكنّ كثيرًا من وقائع الحياة عند استبصارها يتبين أنّ تفضيل آخر العنقود على إخوته بالحنان والمال والدّلال وفتح أبواب قوانين الأُسرة المغلقة أمامه زعزع أركانَ العائلة، وهزَّ مشاعر الأبناء اتجاه أبويهم، وشَكَّكَهُم بِبرّهم وأفعالهم وما جُبِلوا عليه من طباع وما اكتسبوه من أخلاق وسلوكيّات...
كثيرٌ من العطاء والدّلال الزائد لآخر العنقود أو غيره من الأبناء؛ العطاء الذي لا يكون في مكانه الصحيح يُنشِئ جيلًا عابثًا لم يعرف في حياته قيمة الانضباط، فقد نشأ في أُسرةٍ سمحت له بتجاوز القوانين كلّها، ولم يذق طعم الرفض بـ (لا) ولا كيفية التعامل معها.. جيلًا يؤمن بقدرته على تجاوز سقف الممنوعات وقدرته على إرضاخ أبويه ومن حوله لتنفيذ ما يريده بوصفه المحور الذي يدور حوله فَلَكُ العائلة... وكَونُ النَّاسِ جميعًا من حوله!
فلنتّقِ الله بحبّاتِ العنقود كلِّها.. ولنتّقِ الله بأبنائِنا وما رُزقناه من جمالٍ يحملونه نحونا، فهم أماناتنا وهدايانا من الله عزّ وجلّ.