كتاب عربي 21

نحن وصدّام

محمد هنيد
حقبة حكم البعث للعراق تميزت بالحكم الشمولي المطلق وغياب الأحزاب السياسية وحرية الإعلام ودولة المؤسسات.  (صورة أرشيفية)
حقبة حكم البعث للعراق تميزت بالحكم الشمولي المطلق وغياب الأحزاب السياسية وحرية الإعلام ودولة المؤسسات. (صورة أرشيفية)
قُلْ ما شئت في صدام حسين فلن تُجانب الصواب لكنك لن تستطيع مهما فعلت أن تتجنّبه في أي حديث يخص حال بلاد العرب اليوم من المشرق إلى المغرب. في الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق وسقوط بغداد تتفتح الجراح من جديد حول الدور الذي لعبه حاكم العراق وحزب البعث في المآلات الدرامية التي آل إليها العراق ومن ورائه كامل المنطقة المشرقية والتي لا تزال أصداؤها تتردد إلى اليوم في كامل الوطن من المحيط إلى الخليج.

ليس مدار الحديث هنا محاكمة الرجل أو تصنيفه لكن الواقع يفرض علينا بقوة مراجعة الحالة التي سقط فيها العراق أو أسقط فيها هدفنا في ذلك تحقيق الشروط الكفيلة بمنع تجدد الحالة العراقية للأجيال القادمة.

صدام بين فريقين

يرى فيه أنصاره وهم السواد الأعظم من العرب والمسلمين قائدا عظيما ورمزا من رموز الصمود الذي حارب جحافل الغزاة الصليبيين القادمين من وراء البحار لاحتلال بغداد حاضرة الأمة. إنه القائد الشهيد الذي مات وهو ينطق الشهادتين بعد أن تكالب عليه الفرس والأمريكان ومعظم الأنظمة العربية التي شاركت بقوة في تسليم العراق إلى أمريكا وإيران. دليلهم في ذلك ما وصل إليه العراق بعده من فساد وطائفية وقتل على الهوية بل وصل الحال بالعراق إلى الجوع والعطش ومخاطر التقسيم.

ليس الهدف من استحضار صورة صدام محاكمة الرجل بل إن الهدف الأساسي هو وضع الأسباب الكفيلة بمنع تجدد حالة الحكم الفردي المطلق في غيره من البلاد العربية. حكم البعث تجربة انتهت إلى الخراب لتكون درسا للأجيال القادمة مضمونها أن حكم الفرد المطلق مهما بلغ من القدرة على سحر الجماهير فإنه سينتهي حتما بخراب الأوطان.
أما خصومه فيرون فيه سبب خراب العراق وخراب المنطقة منذ أن قرر غزو بلد جار واستباحة أراضيه فوفر للغزاة ذريعة لدمار العراق. هو كذلك نسخة أصلية للطاغية العربي الذي لا يرحم مثله مثل القذافي وبشار وعبد الناصر وبومدين وغيرهم من المستبدين الذين حولوا بلادهم إلى مزارع للقمع يموت فيها المواطن جوعا أو سجنا. عنتريات صدام ومغامراته هي من أوصل العراق والمنطقة إلى الحال التي هي عليها اليوم وهي التي سلمت البلاد إلى المليشيات الإيرانية والجيوش الأمريكية.

الموقفان في الحقيقة وجهان لعملة واحدة فكل فريق يقيم شخصية حاكم العراق حسب السياق الذي هو فيه فأهل الخليج عامة وأهل الكويت خاصة يرون فيه طاغية لأنه استباح بلادهم وقتل أهلهم وفتح باب الخليج على الغزو الخارجي. أما الشعوب العربية البعيدة عن السياق العراقي في مصر أو شمال أفريقيا فهي تري فيه زعيما عربيا لأنه وقف أمام الغزاة وقصف عاصمة دولة الاحتلال.

العراق وشعب العراق

لكن الغائب الأساسي عن هذا التقييم هو الشعب العراقي نفسه وهو الوحيد القادر على الحكم على عقود من حكم البعث. دخل العراق بعد سلسلة من الانقلابات الدامية والمجازر المرعبة مثل مجزرة قصر الرحاب إلى حقبة حكم البعث التي تميزت بالحكم الشمولي المطلق وغياب الأحزاب السياسية وحرية الإعلام ودولة المؤسسات. كان صدام الحاكم بأمره ثم قرر إدخال العراق إلى أتون الحرب مع إيران لتحصد الحرب ما لا يقل عن مليون عراقي دون حساب الجرحى والمصابين. بعدها مباشرة دخل العراق إلى مغامرة غزو الكويت وكان الغزو فرصة أمريكية نادرة لاحتلال الخليج وغرس قواعده في كل دول المنطقة.
 
يضيق المجال هنا عن التذكير بعدد الأطفال العراقيين الذين ماتوا جوعا ومرضا بسبب الحصار وعن عدد القتلى من الجانب الكويتي وعدد آبار النفط التي أحرقت وعدد القتلى في بغداد وحدها جراء القصف الأمريكي. عدد المذابح والمجازر يفوق الوصف ثم دخلت العراق أتون الحرب الطائفية بعد أن انتشرت المليشيات الإيرانية في كل ربوع العراق رافعة رايات الثأر للحسين وعلي وفاطمة من أبناء يزيد وأحفاد معاوية.

دُمر العراق ونسفت الدولة ودخل المشرق العربي مرحلة خطيرة لم يغادرها إلى اليوم بعد أن تحول العراق إلى مصدّر للمليشيات والجماعات الجهادية وتركّز فيه الصراع الطائفي بين السنة والشيعة أو بعبارة أدق بين المشروع الفارسي والوجود العربي.

الشارع العربي

بقي الشارع العربي باستثناءات قليلة جدا ممزقا بين ما آل إليه العراق من خراب بسبب سياسات صدام وخاصة غزو الكويت وبين صورة صدام التي رسخت في ذهنه وصولا إلى مشهد الإعدام الشهير. الشعوب العربية شعوب عاطفية زادتها الهزائم التاريخية إحساسا حادا باليتم الحضاري لذا كانت صورة الزعيم عندهم حالة من التعويض عن صورة الأب وصورة الحامي القادر على دحر الغزاة.

السلطة والحكم مسؤولية جسيمة لا تتعلق بالشخص الحاكم وصفاته بقدر ما تتعلق بما ينجزه من منجز على الأرض وأوله تأمين الوطن وساكنيه من مخاطر الفوضى والحروب التي قد ينزلق إليها الحاكم بعنترياته المنفلتة.
لا نلوم السواد الأعظم من شعوب العرب على هذا الحنين القوى والتعاطف اللامشروط مع حالة صدام حسين خاصة أنها شعوب قد تعرضت إلى أبشع عمليات تجريف الوعي وقصف العقول وتدجين الذاكرة. كانت الدعاية القومية في التسعينات على أشدها وهي التي ساهمت في صناعة هالة من العظمة حول صورة الزعيم كما فعلت قبل ذلك مع القذافي وعبد الناصر وغيرهما. وكانت الدعاية مركزة على تخوين أهل الخليج والنفخ في صورة الجيش العراقي الذي لا يهزم وقائده البطل المغوار الذي لا يتراجع.

فماذا كانت الحصيلة النهائية؟ خراب العراق وموت الملايين وتدمير المنطقة وتركيز القواعد الأمريكية في كل الخليج. غُيّب العقل والمنطق فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة لقد شكل العداء لأمريكا حائط دخان يحجب كل صوت ناقد لمغامرات القائد الرمز والبطل الضرورة والزعيم الخالد وشهيد الفجر والركن المهيب.

ليس الهدف من استحضار صورة صدام محاكمة الرجل بل إن الهدف الأساسي هو وضع الأسباب الكفيلة بمنع تجدد حالة الحكم الفردي المطلق في غيره من البلاد العربية. حكم البعث تجربة انتهت إلى الخراب لتكون درسا للأجيال القادمة مضمونها أن حكم الفرد المطلق مهما بلغ من القدرة على سحر الجماهير فإنه سينتهي حتما بخراب الأوطان.

السلطة والحكم مسؤولية جسيمة لا تتعلق بالشخص الحاكم وصفاته بقدر ما تتعلق بما ينجزه من منجز على الأرض وأوله تأمين الوطن وساكنيه من مخاطر الفوضى والحروب التي قد ينزلق إليها الحاكم بعنترياته المنفلتة.
التعليقات (6)
عماد
الإثنين، 17-04-2023 01:05 م
إنْ جاء كافورٌ .. فكم مِن حاكم /*/ قهر الشعوبَ , وتاجه قبقاب ...
احمد
السبت، 15-04-2023 08:30 ص
صدام ذهب بخيره و شره منذ 20 سنه هل اصبح العراق افضل ام اسوء ؟ من يريد الكلام بالعراق لابد ان يضع نصب عينه ايران و الشيعه لان عدم وجود نظام حكم قوي يلجم الطائفيه سيجعل ايران تحتل على العراق و هذا ما حصل . الكلام بترديد نفس العبارات لكتابه مقالات وتعليقات لا يغير من الواقع ولا ما سيحصل . والله غريب جدا ان نسكت عن خيانه حكام الكويت و السعوديه و الخليج + حسني البارك و نمسك بصدام و لماذا احتل الكويت نعم فعلها لكن هل يذكر السبب ؟ السبب هو تعويم اسعار النفط في الوقت الذي خرج فيه العراق من حرب ثمان سنوات مع ايران دفاعا عن الخليج الذي يهرب اليوم للتطبيع مع اسرائيل خوفا من ايران . بعباره اخرى صدام دافع عن الخليج بحربه مع ايران ولا ينكر هذه الا جاحد او نذل !! تعويم السعر كانت الكويت و السعوديه طرفا فيه عندما ضخوا بطلب امريكي كميات ضخمه من النفط للاسواق .. طبعا هذه ليست عماله و يتم تجاوزها !! نعترف بقله حنكه صدام بل حتى حماقته عندما هاجم الكويت و حصل ما حصل لكن لماذا اليوم السعوديه ترفع سعر النفط بتقليل الانتاج و يتبعها بذلك كل دول الخليج ؟ ألم يكن هذا مطلب صدام حينها ؟ حتى اللجوء لعمله غير الدولار نادى بها صدام منذ اربعين سنه اليوم تلجأ السعوديه و دول الخليج لليوان الصيني ( الشيوعي ) هنا بن باز يتقلب بقبره !! قلتها سابقا و اكرر الوضع بالعراق ليس نقاش في البارسا و الريال فمن يتكلم به عليه ان يتمتع بالحياديه و ان يكون ملما بالتكوين الديمغرافي و التنوع في العراق . اما ان كان شيعيا او طبلا ايراني فانصحه بكابتغون حسن نصر الله للتخفيف عنه لانه هناك مفاجأت لا تسر في المستقبل القريب
محمد غازى
الجمعة، 14-04-2023 02:57 م
مقال رائع للأستاذ محمد هنيد، تشكر عليه. كنت رائعا فى تحليلك لشخصية رئيس عربى. ربما لو كان حول هذا ألرئيس مستشارين محترمين لا ييخافون قول ألحق ولا ينطقون إلا بما هو ألحق، لما وصل ألعراق وأمة ألعرب إلى ما وصلت إليه حالهم أليوم. صدام رحمه ألله إرتكب أكبر جريمة بقيامة بإحتلال دولة عربيه جارة، لم تؤذيه يوما، بل كانت تتودد إليه وتعامله على أنه ألشقيق ألأكبر! لكن عنرية صدام وربما نصيحة من حوله، جعلته يقوم بما قام به، بإحتلال ألكويت وتشريد أهلها والمقيمين على أرضها، مما أثار عليه غضب ألعالم كله، وكان ألرد ألقاسى ألذى دمر ألعراق ومن حوله، وأقام ألعداوة بين ألعرب ألذين كانوا مع وألذين كانوا ضد جنون صدام. ألمهم ياسيدى، أبتهل إلى ألله سبحانه وتعالى، أن يكون ما جرى للعراق درسا لكل ألعرب، ويعرفوا من عدوهم ومن صديقهم، ويهتموا بشعوبهم.
الكاتب المقدام
الجمعة، 14-04-2023 02:38 ص
*** 2- والمصيبة ليست في هؤلاء الحكام المستبدين المحاطين بهالة كاذبة من العظمة، فهم ليسوا إلا قادة منتفخين إعجاباً وزهواً وتأليهاً لأنفسهم، رغم ضعفهم وعجزهم وقلة حيلتهم، وبورقيبة الذي فقد عقله في نهاية فترة حكمه عظة وتذكرة، وبوتفليقة الذي تحول إلى ميت حي على كرسي حكم الجزائر لسنين مثالاً، وهم ليسوا إلا خيالات مآتة من الإمعات والمسوخ الخاوية العقل والعقيدة، ومن ورائهم هم الذين يحركونهم ويتلاعبون بهم، ولكن المصيبة الحقيقية هي في الطبقة التي تلتف حولهم وتتخفى ورائهم، من المتاجرين بالشعارات العنصرية الوطنية والقومية كذباً وتدجيلاً، ومن يضفون شرعية مزورة على حكمهم في الداخل والخارج، ليتسلقوا إلى مراكز السلطة والنفوذ والثروة، ويستغلون نظم الحكم الاستبدادية الفاشية لتكون ستاراً لهم لنهب ثروات الشعوب وإفقارها، وأمثال هؤلاء هم الذين يتباكون اليوم على صدام الذين كانوا شركاء له في إجرامه، وليست الشعوب العربية كما يقول الكاتب، وجماهير الشعب من السفهاء التي تظن أن سكوتهم واختبائهم في عقر دارهم، وإغماض أعينهم عما يدور من حولهم من سرقة ونهب وإجرام وعمالة، سيضمن لهم أمنهم على أنفسهم وعلى أرزاقهم، والدعاية الموجهة لهم لتغييب عقولهم ليست بحجة لهم، فالحق أبلج، فلا يتباكوا على ما ضيعوه من حق أنفسهم وحق أوطانهم في نهايتهم، فهم الذين صنعوه بأيديهم، والله أعلم بعباده.
الكاتب المقدام
الجمعة، 14-04-2023 02:24 ص
*** 1- صدام وأمثاله من الطغاة العرب، لا يختلفون عن غيرهم من الطغاة في تاريخ الإنسانية وحاضرها، فهم مسوخ متشابهة، والشعوب تدفع ثمن تخاذلها في الوقوف أمام استبدادهم وطغيانهم قبل استفحاله، والنماذج عديدة، من فرعون الذي استخف قومه فأطاعوه فأوردهم موارد التهلكة، استمراراً عبر التاريخ إلى نابليون قنصل الثورة الفرنسية وامبراطورها، الذي سعى إلى تدمير واحتلال أوروبا ومصر وباقي العالم العربي باسم الثورة الفرنسية، التي ما زال يقدسها العلمانيون العرب، وعلمانية مصطفى كمال أتاتورك تركيا، وفاشية الدوتشي موسوليني ايطاليا، ونازية الفوهرر هتلر المانيا، وماركسية الرفيق ستالين روسيا، ومخترع الدولة الجديدة سالازار البرتغال، ودكتاتورية فرانكو جنرال انقلاب اسبانيا، وشيوعية شاوشيسكو رومانيا، وكلهم بلا استثناء كانت نهايتهم سوداء، وندم أتباعهم حين لا ينفع الندم، ويجب عدم نسيان منافس صدام في إجرامه، النصيري البعثي حافظ الأسد، وابنه بشار من بعده في سوريا، والعجيب أن قائمة الكاتب التونسي لطغاة العرب، قد خلت من ذكر إجرام طغاة العشرية السوداء في جارته الجزائر، الجنرال اليامين زروال ومن بعده بوتفليقة، وخلت من ذكر دكتاتورية العلماني المتطرف بورقيبة واجرام بن علي في بلده تونس، ورغم أن الكاتب قد ذكر أن هدفه تنبيه الأجيال العربية القادمة، حتى لا تتكرر حالة الحكم الفردي المطلق، وتجربة حكم البعث العراقي التي انتهت إلى الخراب، فنذكره بأن نماذج استبداد أمثال صدام ما زالت مستمرة، من قيس سعيد في تونس، فالجنرال حفتر في ليبيا، إلى الجنرال السيسي في مصر، إلى الجنرال البرهان وحميدتي في السودان، والقائمة تطول شرقاً وغرباً، ونهايتهم إلى مزبلة التاريخ كنهاية من قبلهم، ولا يوجد من حل إلا استمرار ثورات الربيع العربي ضد أنظمة الحكم المستبدة الإجرامية العميلة الفاشلة، وإلا لن تقوم لهذه الشعوب العربية قائمة.